سوق المقبي في حمص… ذاكرة المدينة المسقوفة وروحها التجارية العتيقة

خاص ودق

اقتصاد| الأسواق الشعبية السورية

سوق المقبي في حمص… ذاكرة المدينة المسقوفة وروحها التجارية العتيقة

في قلب مدينة حمص القديمة، حيث تتداخل الأزقة الضيقة مع الحجارة السوداء التي تحمل بصمتها التاريخية، يمتد سوق المقبي كأحد أعرق وأبرز المعالم الأثرية في المدينة. هذا السوق المسقوف، الذي يشكل شريانًا تجاريًا ظل نابضًا لقرون طويلة، لم يكن مجرد ممر تتكدس على جانبيه البضائع، بل كان فضاءً اجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا يروي قصة حمص عبر الزمن، ويكشف عن عمق دورها في التجارة التقليدية السورية.

يرجع بناء سوق المقبي إلى الفترتين الأيوبية والمملوكية، ما يجعله واحدًا من أقدم الأسواق المسقوفة في سوريا. فهو ليس مجرد بناء حجري يمتد على طول المدينة، بل تحفة معمارية صممت وفق رؤية تجارية دقيقة تخدم احتياجات الناس وتنسجم مع المناخ والطابع العمراني للمدينة. السقف الحجري المقوس هو العلامة الأكثر بروزًا فيه، إذ يمنح السوق إيقاعًا بصريًا فريدًا ويخلق مسارًا محميًا يخفف قسوة الصيف ويبدد برد الشتاء، ما سمح للتجارة بالاستمرار طوال العام دون انقطاع.

من يتجول داخل السوق يدرك سريعًا أنه أمام مساحة تملك روحها الخاصة. الضوء الذي يتسلل عبر الفتحات الصغيرة في السقف، رائحة الأقمشة والأعشاب والبهارات، أصوات الحرفيين، والبائعين الذين توارثوا مهنهم أبًا عن جدّ… كل هذه التفاصيل تمنح السوق شخصية لا تشبه أي مكان آخر. لقد كان السوق، وما يزال، ملتقى لأهالي حمص، يقصدونه لشراء حاجاتهم، ولزيارة محلات يعرفون أصحابها منذ سنوات طويلة، وللاستمتاع بهذا الفضاء الذي يبدو كأنه متحف حي يمارس وظيفته اليومية بكامل حيويته.

وكانت طبيعة السلع فيه جزءًا من هوية السوق ذاته. فقد اشتهر عبر تاريخه الطويل ببيع الأقمشة بأنواعها، بدءًا من الأقمشة الفاخرة والمطرزة يدويًا، وصولًا إلى القطنيات والبضائع الشعبية التي تخدم البيوت الحمصية. كما لعبت صناعة الأحذية والجلديات دورًا مهمًا في نشاطه، إلى جانب الحرف التقليدية التي كانت تعد من ركائز اقتصاد المدينة. وكانت محلات الذهب والمجوهرات تضفي عليه بريقًا خاصًا، في حين شكلت محلات بيع الأعشاب والعطارة جزءًا لا يتجزأ من رائحته وروحه.

لم تكن أهمية السوق اقتصادية فحسب، بل تكاملت وظيفته مع دوره الاجتماعي والثقافي. فقد شكّل على مدى عقود طويلة مركز التقاء للحارات القديمة، ومكانًا تتقاطع فيه العلاقات الاجتماعية، حيث يعرف الزبون التاجر ويثق به، وتنتقل هذه الثقة عبر الأجيال. كانت المساومات، الحديث العابر، ودفء العلاقات كلها جزءًا من الطابع الإنساني للسوق، ما جعله أكثر من مجرد فضاء للتجارة، بل ساحة يومية يعيش فيها الناس حكاياتهم الصغيرة.

أما من الناحية الاقتصادية، فقد كان السوق أحد أبرز مراكز الجذب التجاري في حمص قبل عام 2011. الحركة اليومية فيه كانت تعكس نبض المدينة كله، إذ يتدفق إليه السكان من مختلف الأحياء، وإليه تتجه الوفود القادمة من الريف والمناطق المجاورة لشراء البضائع بالجملة والمفرق. وكانت دورة رأس المال نشطة وسريعة، والتنوع الكبير في المحلات يمنح السوق قدرة على تلبية احتياجات طبقات اجتماعية متنوعة، من الباحثين عن الأقمشة الفاخرة إلى الأسر التي تبحث عن بضائع بأسعار مقبولة.

ومع أن السنوات الأخيرة حملت تحديات كبيرة للمدينة بسبب الظروف التي عرفتها سوريا، فقد بقي سوق المقبي حاضرًا، ولو بملامح مختلفة. تراجعت الحركة التجارية، وتقلصت أنواع البضائع مقارنة بعصر الازدهار السابق، وتغيرت طبيعة البيع والشراء، لكن السوق ظل يحتفظ بهويته الأساسية. فالسقف الحجري ما زال ممتدًا، والأقواس القديمة ما زالت تقف شاهدة على تاريخ طويل، والحرفيون القدامى ما زالوا يحاولون الحفاظ على مهنهم رغم الصعوبات. وحتى البضائع التي تغيرت طبيعتها، بقيت تحافظ على شيء من الروح الشعبية التي عرف بها السوق عبر العقود.

إحياء سوق المقبي اليوم لا يعني فقط ترميم حجارته أو تنظيف مساراته، بل يشمل إعادة التفكير في دوره الاقتصادي والثقافي. فهذا السوق، الذي يمثل ذاكرة حمص العتيقة، يحتاج إلى خطة تعيد له مكانته كأحد مراكز العمل الشعبي والحرفي، وتعيد وصل روابطه القديمة مع الأسواق التقليدية الأخرى. إن المحافظة على هذا المعلم ليست مجرد مسؤولية تراثية، بل هي ضرورة اقتصادية تعيد للمدينة جزءًا من روحها، وتفتح بابًا لعودة الحركة التجارية التي كانت تميزها.

في نهاية المطاف، يبقى سوق المقبي علامة فارقة في تاريخ حمص. مكان حافظ على هويته رغم تقلبات الزمن، وظل شاهدًا على حكايات لا تنتهي، من التجار الذين ملأوا محلاته بأنواع الأقمشة والجلود، إلى الأزواج الذين خطوا أولى خطواتهم في الحياة المشتركة عبر شراء حاجاتهم من هذا السوق، إلى الحرفيين الذين ما زالوا يطرقون الحديد ويقصّون القماش ويصنعون الجلود كما فعل أسلافهم. إنه أكثر من سوق؛ إنه جزء من ذاكرة المدينة، ومرآة تعكس روحها الأصيلة وصمودها المستمر مهما تغيرت الظروف.

اترك تعليقا