«سورية بين الفقر والانفجار: الاقتصاد المنهار في مناطق النظام خلال سنوات الثورة»
- ودق - Wadaq
- نوفمبر 23, 2025
- اقتصاد
- الاقتصاد السوري, بشار الأسد, سوريا
- 0 Comments
خاص ودق| الاقتصاد السوري في عهد الأسد الساقط
لم تشتعل نار الفقر في سورية فجأة، ولم يظهر الانهيار الاقتصادي كحدث منفصل عن سياق الحرب. فمنذ بدايات الثورة السورية، بدأت مناطق سيطرة النظام تشهد تحوّلات اقتصادية واجتماعية حادة، تشكلت من خلالها ملامح اقتصاد منهك ومنقسم، فقدَ القدرة على حماية المجتمع أو توفير حدٍّ أدنى من الاستقرار المعيشي. ومع مرور السنوات، أصبح السوريون في تلك المناطق يعيشون ضمن ما يشبه «اقتصاد النجاة»، حيث الانكماش القاسي في الدخل، الارتفاع المذهل للأسعار، وانهيار القوة الشرائية أمام أهم السلع الأساسية.
تآكل الدخل الحقيقي: الرواتب تتبخر أمام التضخم
مع اندلاع الثورة، بدأت الليرة السورية تفقد قيمتها تدريجياً، بينما بقيت الرواتب في مناطق النظام في حالة شبه ثبات. كان الموظف السوري يتقاضى راتباً لا يتجاوز 15 ألف ليرة في السنوات الأولى من الأزمة، بينما كانت أسعار المواد الغذائية ترتفع بشكل شبه يومي. وحتى مع رفع الرواتب في الأعوام اللاحقة، فإن الزيادة بقيت شكلية، لأنها كانت تلتهم بالكامل بسبب تسارع التضخم.
أصبح الراتب الشهري لا يكفي سوى أيام قليلة، وفي بعض الأحيان ساعات فقط. وتحول العجز بين الدخل والإنفاق إلى قاعدة عامة، دفعت المواطنين إلى الاقتراض من الأقارب والجيران، أو الاستدانة من المتاجر، أو الاعتماد الكامل على الحوالات الخارجية.
اقتصاد الطوابير: الخبز والمازوت يسقطان من قائمة الحقوق
شهدت مناطق سيطرة النظام اختفاءً تدريجياً للسلع المدعومة، ما أدى إلى طوابير طويلة أمام الأفران ومحطات الوقود، وأصبح الحصول على ربطة الخبز أو ليتر المازوت مهمة تتطلب ساعات انتظار وإذلال يومي.
فقد تولى تجار مقربون من السلطة التحكم في توزيع السلع الأساسية، ما خلق سوقاً سوداء نشطة. كان المواطن يقف على الطابور بالسعر المدعوم، بينما يستطيع آخرون الحصول على نفس السلع بالدولار أو بأسعار مضاعفة عبر قنوات محسوبة على جهات نافذة.
تدريجياً، تحوّل الدعم الحكومي من شبكة أمان للفقراء إلى شبكة توزيع للربح، تستفيد منها أطراف معينة على حساب ملايين المواطنين.
القمع الاقتصادي: الجبايات والحواجز كمصادر دخل للنظام
مع اتساع العجز المالي للدولة، لجأ النظام إلى تعزيز مصادر تمويله بوسائل لم تكن قائمة قبل الثورة. ظهرت جبايات جديدة: رسوم عبور، غرامات مفاجئة، ضرائب «مخالفة بناء»، وابتزاز مباشر على الحواجز العسكرية.
كانت الحواجز المنتشرة داخل المدن وبين المحافظات تمارس نوعاً من «الإتاوة»، حيث يُطلب من المارّين الدفع مقابل عبور آمن أو تسريع التفتيش. وفي العديد من المناطق، كان الجنود يفرضون رسوماً غير رسمية على الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية أو السلع القادمة من الريف، ما أدى إلى رفع أسعارها في الأسواق.
كما تحول القضاء إلى سلطة مالية عبر غرامات و«تسويات» تُفرض على المواطنين تحت تهديد السجن أو الملاحقة. وظهر سماسرة ومحامون يستغلون الفوضى لابتزاز الناس، خصوصاً في قضايا التهرب من الخدمة العسكرية أو أوراق الملكية والعقارات.
تفكك الطبقة الوسطى وصعود اقتصاد النجاة
كانت الطبقة الوسطى في سورية قبل الثورة تشكل العمود الفقري للحياة المدنية والاقتصادية. لكنها في مناطق النظام خسرت مدخراتها، وتبخر رأس مالها، وانزلقت إلى دائرة الفقر.
بدأت الأسر تبيع مجوهراتها، سياراتها، أثاث منازلها، وحتى ممتلكاتها العقارية. كما اتجه عدد كبير من الشباب إلى الهجرة، فيما لجأت عائلات أخرى إلى إرسال أطفالها للعمل في ورشات الحدادة والنجارة والمطاعم، لسد جزء بسيط من احتياجاتها.
وسرعان ما برز شكل جديد من الاقتصاد: «اقتصاد النجاة».
وفي هذا الاقتصاد، أصبحت الحوالات الخارجية هي المصدر الوحيد لتوازن العائلات. أما من لا يملك قريباً في الخارج، فقد أصبح يعيش على الكفاف، أو يعتمد على الجمعيات الخيرية، أو يواجه الفقر المدقع بلا أي حماية.
انفجار اجتماعي مؤجَّل: بين اليأس والحاجة إلى عدالة اقتصادية
مع استمرار الانهيار، أخذت ملامح الانفجار الاجتماعي تتشكل تدريجياً داخل المناطق الخاضعة للنظام. ارتفعت معدلات الجريمة، وانتشرت سرقات المنازل وكابلات الكهرباء والوقود من خطوط النقل. كما ظهرت احتجاجات صغيرة متناثرة بسبب الغلاء، لكنها كانت تُقمع فوراً.
ومع كل ذلك، يبقى السؤال الأخطر: كيف يمكن إعادة بناء الثقة المجتمعية والاقتصادية في مرحلة ما بعد سقوط النظام؟
هنا يظهر دور العدالة الانتقالية الاقتصادية كضرورة لا يمكن تجاهلها. فإعادة توزيع الثروة، واسترجاع الأموال المنهوبة، ومحاسبة شبكات الفساد التي كوّنت ثرواتها على حساب دماء السوريين—سواء عبر الاحتكار أو الجبايات أو سوق الحرب—هي مدخل أساسي لإعادة بناء الدولة.
كما تتطلب العدالة الانتقالية كشف الدور الذي لعبته المؤسسات الأمنية والعسكرية في تجويع الناس، خصوصاً عبر الحواجز والتهريب والابتزاز المالي. وقد تم بالفعل إلقاء القبض في دول مختلفة على عدد من الضباط والعسكريين المتورطين في جرائم ضد المدنيين، وهي خطوات تمهد لمرحلة محاسبة أوسع، تضع اقتصاد الحرب أمام العدالة.
وفي النهاية، فإن ما عاشته المناطق الخاضعة للنظام لم يكن مجرد أزمة اقتصادية، بل عملية منهجية أدت إلى تدمير البنية الاجتماعية، وتجريف الطبقة الوسطى، وتحويل الدولة إلى جهاز جباية ضخم. ومع سقوط النظام، ستُفتح أبواب المساءلة، وسيكون الاقتصاد—كما الدم—شاهداً لا يمكن تزويره على سنوات الفقر والانفجار.

