سوريا الجديدة والسياحة: من أنقاض الحرب إلى جسور الانفتاح

شبكة ودق – سوريا 

بعد عقود من الاستبداد والتهميش، تقف سوريا اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، تحاول من خلالها استعادة ما دمرته الحرب، وتوظيف ما تملكه من كنوز أثرية وطبيعية لتكون وجهة عالمية كما كانت دائماً. فالسياحة في سوريا لم تكن قطاعاً عادياً، بل كانت انعكاساً لهوية حضارية وثقافية عمرها آلاف السنين، حوّلها نظام الأسد إلى ديكور سياسي وأداة دعاية، قبل أن تلتهمها النيران.

 

إرث حضاري لا يموت

 

رغم الدمار، لا تزال سوريا تحتضن إرثاً يُعد من الأثمن في العالم. من تدمر في قلب الصحراء، إلى قلعة حلب والجامع الأموي في دمشق، ومن ماري وإيبلا حيث وُلدت الأبجدية، إلى أسواق حماة ومدرج بصرى الروماني، كلها مواقع صنّفتها اليونسكو ضمن التراث الإنساني العالمي.

 

لقد دمرت الحرب بعضها، وسُرقت آثار أخرى، لكن القيمة المعنوية والتاريخية لا تزال حية في ذاكرة السوريين والعالم. وهو ما يشكل أساساً لإعادة إحياء السياحة الثقافية والتاريخية في البلاد.

السياحة الدينية والثقافية: مفاتيح الانفتاح

 

تتميّز سوريا بمكانة فريدة على الخريطة الدينية، إذ تضم أماكن مقدسة للديانات السماوية الثلاث. من كنيسة حنانيا إلى مقام السيدة زينب، ومن قلعة الحصن التي شهدت الحملات الصليبية، إلى جبل العرب وأديرة صيدنايا، كلها مواقع يمكن أن تستعيد مكانتها كمزارات روحية وسياحية.

 

كما أن استثمار هذا التنوع الثقافي والديني، إذا تم ضمن رؤية وطنية جامعة، يمكن أن يعزز مفهوم السياحة القائمة على التعدد والانفتاح والتسامح، وهو ما تحتاجه سوريا لتخطي ماضي الانقسام.

البيئة الآمنة أولاً: التحدي الأكبر

 

لكن لا يمكن أن تزدهر السياحة دون بيئة آمنة ومستقرة. وهذا ما يجب أن تضعه حكومة الرئيس السوري أحمد الشرع في صلب أولوياتها. فالسائح، كما المواطن، يبحث عن دولة تحترم القانون، تضمن له الأمن والحرية، وتُظهر وجهها الحقيقي لا وجهها الأمني.

 

لقد أثّرت الانتهاكات الخارجية مثل الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية، والأحداث الداخلية الأخيرة كـالصدامات التي شهدتها محافظة السويداء ، على قرار السائح بالدخول إلى البلاد، بل حتى على صورة سوريا لدى المستثمرين الدوليين في القطاع السياحي.

 

بالتالي، فإن استعادة الأمن لا تعني فقط غياب المعارك، بل تعني بناء دولة عادلة، تفرض سيادتها، وتُطمئن الجميع بأن سوريا الجديدة ليست استمراراً للقديم، بل انطلاقة مختلفة تُحترم فيها الحياة والكرامة.

من مزارع النظام إلى اقتصاد وطني شفاف

 

في عهد الأسد، تحوّل القطاع السياحي إلى مزارع خاصة بأصحاب النفوذ، حيث كانت الاستثمارات تذهب نحو الفنادق الفاخرة المملوكة لأبناء المسؤولين، بينما بقيت المواقع الأثرية بلا صيانة أو تطوير. أما العوائد، فكانت تتسرب عبر شبكات الفساد بدل أن تُستثمر في البنية التحتية والخدمات.

 

أما اليوم، فإن الفرصة سانحة لبناء اقتصاد سياحي وطني شفاف، يديره القطاع الخاص المحلي والمجتمع الأهلي بالتعاون مع الدولة، ويُسهم في خلق فرص عمل، وتنمية المجتمعات الريفية، وتوزيع العائدات بعدالة، لا كما كان الحال سابقاً.

رؤية جديدة للسياحة السورية

 

ينبغي أن تستند السياسة السياحية في سوريا الجديدة إلى المبادئ التالية:

 

اللامركزية الإدارية: تمكين المحافظات من إدارة شؤونها السياحية واستثمار مواردها الثقافية.

 

إشراك المجتمع المحلي: دعم مشاريع سياحية صغيرة ومتوسطة يديرها السكان المحليون، خصوصاً في الأرياف والجبال.

 

التكامل مع التعليم والبيئة: ربط السياحة بالمؤسسات الأكاديمية لتخريج كوادر متخصصة، وتحقيق الاستدامة البيئية في المشاريع.

 

تشجيع الاستثمار الأخلاقي: استقطاب المستثمرين بشفافية، ومنع الاحتكار والاستغلال باسم إعادة الإعمار.

 

 

 من بوابة التاريخ إلى بوابة المستقبل

 

سوريا ليست فقط بلداً منكوباً، بل بلداً ينتظر النهوض، ولديه كل المقومات ليكون وجهة فريدة. والسياحة يمكن أن تكون أداة مصالحة مع الذات ومع العالم، ورافعة اقتصادية حقيقية إذا ما أُديرت بعقل دولة، لا عقل أمن ولا غنيمة.

 

“عندما تُفتح أبواب قلعة حلب من جديد، وتُضاء أسواق دمشق ليلاً، سنعرف أن سوريا بدأت بالفعل رحلة الشفاء.”

اترك تعليقا