سجن صيدنايا | اقتصاد المال والدم
- ودق - Wadaq
- نوفمبر 21, 2025
- سوريا
- 0 Comments
خاص ودق
صيدنايا… آلة المال والدم
في قلب المشهد السوري خلال سنوات الثورة، كان سجن صيدنايا رمزًا لرعب لا يراه العالم، حيث تحوّل من مركز اعتقال إلى منظومة مالية متكاملة، قائمة على استثمار الألم الإنساني وتحويله إلى مورد اقتصادي ضخم للنظام وشبكاته. لم يكن صيدنايا سجناً بالمعنى التقليدي، بل أصبح “مصنعاً للمال الأسود”، يعمل على استخراج الأرباح من خوف الأهالي، ومن جهلهم بمصير أبنائهم، ومن عجزهم أمام شبكة متكاملة من السماسرة والمحامين والضباط.
اقتصاد الرعب: كيف وُلدت السوق السوداء للمفقودين؟
مع توسّع الاعتقالات منذ عام 2011، تضخّم عدد المجهولين في البلاد. آلاف الأشخاص دخلوا بوابات صيدنايا دون أن يعودوا، ومع غياب أي شفافية أو سجلات رسمية، وجدت شبكات واسعة فرصة لابتزاز ذوي المعتقلين. كانت المعلومة – كلمة أو جملة – تساوي حياة كاملة. أما الثمن، فهو ما يملكه الأهالي وما لا يملكونه.
منظمات حقوقية أكدت أن المبالغ المدفوعة على مرّ السنوات تُقدَّر بمئات الملايين من الدولارات، حيث دفع الأهالي أجورًا طائلة لقاء وعود كاذبة، زيارات لم تتم، أو حتى مجرد تأكيد أن ابنهم لا يزال على قيد الحياة. والأخطر أن جزءًا واسعًا من هذه المبالغ صعد إلى مستويات عليا داخل بنية النظام، ما جعل اقتصاد صيدنايا جزءًا من التمويل غير الرسمي للمؤسسة الأمنية.
شبكات معقدة: المحامون والسماسرة والسجّانون شركاء في الربح
لم تكن عمليات الابتزاز عشوائية، بل خضعت لتنظيم دقيق. في كثير من الحالات، يبدأ الأمر بشخص يدّعي معرفة مصير المعتقل أو امتلاكه صلة بضابط ما. ثم يُحال الأهل إلى محامٍ “مختص”، يقدّم نفسه على أنه قادر على ترتيب زيارة، أو استخراج ورقة رسمية، أو التوسط لإطلاق سراح.
الرسوم تبدأ بمبالغ صغيرة تحت مسمّيات قضائية، ثم تتضخم تدريجيًا:
“تغذية الملف”
“رسوم محكمة الإرهاب”
“مصالحة أمنية”
“غرامات مستحقة”
“تكلفة الاتصال بالضابط المسؤول”
كل هذه العناوين كانت مجرد واجهات لعملية واحدة: انتزاع أكبر قدر من المال من الأهل قبل لحظة الانهيار النفسي أو الإفلاس.
معظم الأوراق التي كانت تُسلَّم للعائلات كانت مزوّرة أو بلا قيمة قانونية. وفي النهاية، غالبًا ما تختفي الشبكة بالكامل بعد الحصول على المبالغ، تاركة العائلات بين حسرتين: ضياع أبنائهم وخراب بيوتهم.
سوق بمئات الملايين: كيف استفاد النظام من اقتصاد السجون؟
لم يكن الضباط والسماسرة وحدهم المستفيدين. النظام نفسه كان جزءًا من هذه المنظومة الاقتصادية. الباحثون في قضايا الفساد والاقتصاد السياسي في سوريا يؤكدون أن جزءًا من الأموال دفع مباشرة داخل المؤسسة الأمنية، سواء عبر رشاوى للحصول على معلومات أو عبر “رسوم” تم تغطيتها بغطاء قانوني وهمي.
سجن صيدنايا، بهذا الشكل، تحوّل إلى ما يشبه “مصرفًا موازيًا” يدرّ أموالًا ثابتة، بعيدًا عن رقابة الدولة أو ميزانيتها. الأموال المتدفقة لم تكن فقط ثمنًا للمعرفة، بل أصبحت جزءًا من دورة التمكين الأمني، حيث تُستخدم لدعم الولاءات، وتمويل العمليات، وشراء أدوات القمع.
من هنا، يصبح صيدنايا ليس فقط رمزًا للقتل، بل نموذجًا صريحًا عن اقتصاد الحرب في سوريا، حيث تتحول أدوات القمع إلى مؤسسات ربحية.
الضحايا: ألم مضاعف بين الفقد والديون
المأساة الاقتصادية لا تقل وحشية عن المأساة الإنسانية. آلاف العائلات باعت منازلها أو أراضيها أو محالها التجارية لتسديد الدفعات المتلاحقة لوسطاء و”محامين”. بعض العائلات فقدت كل مدخراتها، ظنًا أن المال هو الطريق الوحيد لإنقاذ أبنائها أو معرفة الحقيقة.
نساء كثيرات وجدن أنفسهن بلا معيل، بعد أن أنفقن كل ما يملكن على رحلة بحث طويلة في دهاليز شبكات الاحتيال. أما الذين تلقّوا “شهادات وفاة” لأبنائهم، فغالبًا جاءتهم بلا تفسير أو تاريخ أو جثمان.
الصدمة الاقتصادية المتمثلة بخسارة الممتلكات والمداخرات ترافقت مع صدمة نفسية أعمق: الإحساس بأن النظام لم يكن يكتفي باعتقال الأبناء، بل كان ينهب ما تبقى من حياة ذويهم.
العدالة الانتقالية: الطريق إلى كشف الحقيقة واسترداد الأموال
مع سقوط النظام وبدء مرحلة العدالة الانتقالية، تبدو قضية صيدنايا أحد أعقد الملفات. فهي لا تتعلق فقط بالقتل والتعذيب والإخفاء القسري، بل أيضاً بالفساد المالي والاحتيال المنظم الذي مارسته شبكات واسعة على مرّ سنوات.
وتؤكد منظمات حقوقية ضرورة إدراج بنية “اقتصاد السجون” ضمن أولويات العدالة الانتقالية، عبر:
فتح ملفات الحسابات المالية المرتبطة بالسجون.
تحديد الجهات المستفيدة داخل هرم السلطة.
استرداد الأموال المنهوبة وتعويض الضحايا.
محاكمة كل من شارك في شبكات الابتزاز، سواء كانوا ضباطاً أو محامين أو وسطاء.
إنشاء هيئة مستقلة لكشف مصير المعتقلين والمفقودين.
وقد جرت بالفعل ملاحقات لعدد من السجانين والضباط السابقين خارج سوريا في قضايا تتعلق بالتعذيب، وهي ملفات تمثل جزءًا من مسار العدالة، ولكنها لا تكفي لتعويض الضحايا أو الكشف عن شبكة الأموال التي امتصّت آلامهم.
صيدنايا لم يكن مكانًا للتعذيب فقط، بل كان مؤسسة اقتصادية قائمة على الاستثمار في الخوف. تحوّل المعتقل إلى “رصيد مالي”، والمعلومة إلى “بضاعة”، والضابط إلى “تاجر”. وبهذا، كانت آلة الدم أيضاً آلة مال هائلة، غذّت خزائن السلطة وجعلت من الظلم تجارة مربحة.
اليوم، الحاجة إلى كشف الحقيقة ليست مطلبًا أخلاقيًا فقط، بل شرطًا لإعادة بناء اقتصاد نظيف ومؤسسات شفافة. العدالة الانتقالية ليست نهاية القصة، بل بدايتها؛ وهي الطريق الوحيد لتحويل “آلة المال والدم” إلى تاريخ يُدان، لا مستقبل يُعاد إنتاجه.

