“الاقتصاد السوري… الضحية الصامتة في جمهورية الخوف”
- ودق - Wadaq
- نوفمبر 28, 2025
- اقتصاد, سوريا
- اقتصاد, اقتصاد الحرب, الاقتصاد السوري, انتصار الثورة, سوريا
- 0 Comments
خاص ودق| سوريا
سوق العمل السوري بين النزوح والتدمير: انهيار القوة العاملة وانكماش فرص العيش خلال سنوات الثورة
لم يكن انهيار سوق العمل السوري خلال سنوات الثورة مجرد نتيجة جانبية للحرب، بل كان أحد أخطر التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي ضربت البلاد. ففي الوقت الذي أصبحت فيه البطالة عنواناً مركزياً للحياة اليومية، كانت القوة العاملة تتفكك أمام موجات النزوح، وانهيار المؤسسات، وتراجع البنية الإنتاجية.
سورية التي كانت تضم قوة عاملة تُقدَّر قبل 2011 بأكثر من خمسة ملايين شخص، وجدت نفسها في غضون سنوات أمام سقوط فعلي لنصف هذه القوة، إمّا عبر الهجرة، أو التجنيد الإجباري، أو الاعتقال، أو القتل، أو الانكفاء إلى اقتصاد البقاء والعيش الهش.
نزوح الملايين وسوق العمل فارغ من عموده الفقري
مع ازدياد العنف في المدن والبلدات، نزحت عائلات بأكملها إلى الداخل أو الخارج. لم يكن النزوح مجرد انتقال جغرافي، بل كان استئصالاً كاملاً لشرائح كاملة من السوق.
المهندسون، المدرسون، الفنيون، العمال المهرة، أصحاب المهن الصناعية—جميعهم اختفوا تدريجياً من المشهد، تاركين خلفهم فجوة ضخمة.
وفي مناطق النظام تحديداً، كان التجنيد الإجباري أحد أكبر أسباب انهيار سوق العمل، إذ جرى سحب عشرات الآلاف من الشباب في أعمار العمل إلى الخدمة العسكرية سنوات طويلة دون تسريح.
ومع سفر من استطاع إلى دول الجوار أو أوروبا، تقلصت القدرة الإنتاجية للمجتمع، وانهار القطاع الخاص، بينما بقيت المؤسسات الحكومية تعمل بعدد موظفين منهك، وتحت ضغط التضخم والعقوبات وتراجع الموارد.
انهيار القطاعات الإنتاجية: المصانع بلا عمال والأراضي بلا فلاحين
لم يكن القطاع الصناعي أفضل حالاً.
فمع توسع العمليات العسكرية في حلب وحمص وريف دمشق، دُمّرت آلاف الورشات والمعامل التي كانت تشكل العمود الفقري للاقتصاد السوري. استهداف مناطق الصناعة—سواء بالقصف أو عبر المعارك—حوّل آلاف العمال إلى عاطلين عن العمل بين ليلة وضحاها.
أما الزراعة، التي لطالما كانت المظلة التي تحمي الفقراء، فقد خسرت معظم قواها العاملة بسبب النزوح الواسع من الريف، وانعدام الأمن، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وغياب الدعم الحكومي الفعلي.
كانت الأراضي الزراعية تُترك دون حراثة، والمواسم تُهمل، فيما يتحول الفلاحون إلى عمال مياومة في المدن أو باعة على الأرصفة أو نازحين يبحثون عن المساعدات.
هذا الانهيار في القطاعين الصناعي والزراعي أدى إلى تراجع كبير في الإنتاج المحلي، وانفجار في أسعار السلع، وزيادة في الاعتماد على الاستيراد الذي تحكمت فيه فئات ضيقة مرتبطة بشبكات النفوذ.
سوقٌ بلا فرص: كيف تحوّل العمل إلى امتياز؟
مع كل هذه التحولات، أصبح العثور على فرصة عمل مستقرة أمراً نادراً.
فالقطاع الخاص تقلّص إلى حدوده الأدنى، بينما اكتفى النظام بتوظيف محدود في القطاع العام لا يتجاوز رواتب رمزية لا تكفي لحياة كريمة.
وفي ظل غياب الإنتاج الحقيقي، ظهرت وظائف موسمية وهشة، برواتب قليلة، وظروف غير آمنة، تعتمد على الأعمال اليومية أو المؤقتة، مثل:
العمل في النقل الداخلي
المياومة في المطاعم والمحال
بيع الخضار في الأسواق
العمل في البناء أو المخازن
وظائف مؤقتة في المنظمات الدولية في بعض المناطق
كما توسع الاقتصاد غير الرسمي بشكل هائل، حتى أصبح يشكل المنفذ الوحيد لملايين السوريين.
هذا الاقتصاد—رغم أنه ساعد في النجاة—كان يقوم على الغياب التام للحقوق: لا عقود، لا ضمانات، لا حماية اجتماعية، ولا حد أدنى من الأجور.
وبينما كان المواطن يكافح لإيجاد أي مصدر دخل، كانت الميليشيات وشبكات النفوذ تسيطر على قطاعات واسعة، وتستفيد من الفراغ الاقتصادي، ما أضاف طبقات جديدة من الظلم والتمييز.
المرأة: من الظل إلى واجهة الاقتصاد المنهار
مع غياب الرجال بسبب القتل أو الاعتقال أو الخدمة العسكرية أو الهجرة، وجدت النساء أنفسهن في قلب سوق العمل لأول مرة بهذا الحجم.
لكن دخول النساء إلى سوق العمل لم يكن نتيجة تمكين اقتصادي، بل نتيجة الاضطرار الكامل، لتأمين الحد الأدنى من الغذاء والسكن.
عملت النساء في:
الخياطة المنزلية
بيع الطعام
التطريز
الأعمال الزراعية المأجورة
الوظائف المكتبية منخفضة الأجر
أو حتى الأعمال الشاقة في بعض المناطق
وقد أدى ذلك إلى تغيير اجتماعي كبير، لكنه لم ينعكس إيجابياً على مستوى المعيشة، لأن الأجور ظلت منخفضة، بينما تم استغلال النساء اقتصادياً عبر عقود مجحفة أو أعمال غير مدفوعة أحياناً.
انكماش القوة الشرائية: راتب بلا قيمة وسوق بلا قدرة على الشراء
حتى من بقي لديه عمل ثابت في مناطق النظام، كان يواجه انهياراً هائلاً في القوة الشرائية.
فالراتب الحكومي الذي كان يعادل سابقاً 300 دولار، أصبح أحياناً أقل من 20 دولاراً وفق سعر الصرف في السوق السوداء.
وأمام ارتفاع أسعار السلع الأساسية عشرات المرات، أصبح راتب شهر كامل لا يغطي سوى بضعة أيام من الطعام والمواصلات.
هذا الانهيار خلق دائرة فقر واسعة:
انخفاض القوة الشرائية
انخفاض الطلب
إغلاق مزيد من المحلات
المزيد من البطالة
المزيد من التدهور
وهي دائرة لا يمكن كسرها إلا عبر عودة الإنتاج الحقيقي واستعادة الأمن والاستقرار السياسي.
نحو عدالة اقتصادية تعيد بناء سوق العمل
مع سقوط النظام، ستكون إعادة سوق العمل السوري إلى وضعه الطبيعي واحدة من أكثر المهام تعقيداً.
فإعادة بناء القوة العاملة تتطلب:
عودة المهجرين والخبرات
وقف اقتصاد الميليشيات
استعادة الأمن والاستقرار القانوني
إعادة بناء القطاعات الإنتاجية
إرساء برامج حماية اجتماعية فعالة
محاسبة شبكات الفساد التي استغلت الناس خلال الحرب
إن سقوط نصف القوة العاملة ليس مجرد رقم، بل جرح عميق في جسد الاقتصاد السوري.
لكن إعادة تشكيل سوق العمل—على أسس جديدة تعتمد على العدالة والشفافية—ستكون بوابة العودة إلى بلد يمكن العيش فيه بكرامة، لا بلد ينجو فيه الناس فقط لأنهم محظوظون… أو لأنهم ما زالوا على قيد الحياة.

