رفح تُباد حجراً وبشراً: حين يتحوّل الجنوب إلى قفص بشري تحت الأرض المفتوحة

في الجنوب المحاصر، حيث لا ماء ولا دواء ولا غطاء يحمي العائلة من نيران السماء، تتوالى الانفجارات بوتيرة لا تتوقف، تُسحق فيها البيوت فوق ساكنيها، وتُسوى أحياء كاملة بالأرض في رفح، المدينة التي كانت تُلقّب يوماً بـ”ملاذ النازحين” في قطاع غزة. لكنّها اليوم تحوّلت إلى وجهة الموت الأخيرة، حيث لا يخرج منها إلا ركام، ولا يدخل إليها سوى صدى التفجيرات القادمة من سماء محمومة بالبوارج والطائرات والطائرات المسيّرة.

تقول رويترز، في تقريرٍ ميداني من قلب الجحيم، إن القوات الإسرائيلية تقوم بتفجير كل ما تبقّى من مبانٍ في رفح بشكل منهجي، وكأنها لا تكتفي بحصار المدنيين بل تسعى إلى محو آخر معالم المدينة من الوجود. شهود عيان أكدوا أن الأصوات لا تتوقف ليلاً ونهاراً، وأن الأرض تهتز تحت أقدامهم من شدّة القصف، حتى على بُعد كيلومترات من مركز المدينة. أحد الشهود قال: “لا تتوقف الانفجارات… رفح اختفت”، وهي جملة تُختصر بها كل ملامح المأساة.

لكن الأخطر من القصف هو ما يدور خلفه: خطة لعزل مئات الآلاف من السكان في منطقة جرداء ومقفرة جنوب رفح، تُعدّ الآن لتكون ما يشبه المعسكر المغلق.

تسريبات إسرائيلية تحدّثت عن “منطقة إنسانية” مؤقتة، تُنقل إليها العائلات الفلسطينية بعد تفتيش أمني دقيق، وتُوزّع فيها المعونات من خلال شركات خاصة وليس منظمات إنسانية. الأمر الذي يُذكّر بتركيبة “الكانتونات” العرقية التي سادت في جنوب إفريقيا أو حتى معسكرات الاعتقال خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن هذه المرة في القرن الحادي والعشرين، وبعلم الجميع.

الحكومة الإسرائيلية تبرّر الأمر بأنها أدخلت كميات “كافية” من المساعدات خلال وقف إطلاق النار السابق، وأنها تخشى الآن من استغلال تلك المواد من قِبل مقاتلي حماس. لكن الواقع يقول عكس ذلك: الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة تؤكد أن المخزون الغذائي في غزة قد نفد تماماً، وأن قطاع الصحة انهار، وأن السكان يواجهون مجاعة جماعية باتت مسألة أيام فقط.

المخاوف تتصاعد، ليس فقط من القتل الجماعي، بل من توطين جماعي قسري في “رفح العزل”، حيث تُقطع خطوط الاتصال مع الشمال والوسط، ويُحشر الناس في رقعة صغيرة بلا ماء ولا كهرباء ولا دواء، في صورة قد تكون البداية لمخطط تهجير أكبر، أو على الأقل، لحصار إنساني دائم يتجاوز كل الاتفاقيات الدولية.

رفح ليست مدينة فقط، بل هي شريان الحياة الأخير لمليونَي إنسان تقطّعت بهم السبل، وما يحدث فيها الآن لا يمكن تبريره تحت أي ذريعة أمنية. فحين تتحوّل الحرب إلى سياسة ممنهجة لتجويع السكان ودفنهم تحت الأنقاض، لا يعود الحديث عن “حق الدفاع عن النفس” ذا معنى، بل يصبح غطاءً لأوسع عملية تطهير جماعي في التاريخ الحديث.

إن لم يوقف العالم ما يحدث في رفح اليوم، فلن يكون غداً حديثٌ عن غزة، بل عن مقابرها الجماعية، عن صمتٍ عالميٍ قاتل، وعن جريمة مكتملة الأركان جرت على الهواء مباشرة.

اترك تعليقا