
غياب “النخب” ووجوه المجتمع: حين يترك الفنانون السوريون الشعب وحيداً
- ودق - Wadaq
- سبتمبر 28, 2025
- رأي
- إعادة الإعمار, المؤثرين, حملات التبرع, سوريا, مقاطعة المؤثرين
- 0 Comments
خاص ودق – سوريا
في بلدٍ يعيش لحظة فارقة من تاريخه، حيث ينهض السوريون اليوم بعد عقود من الدم والدمار ليجمعوا ما تبقى من قوتهم ويطلقوا حملات تبرع لصندوق إعادة الإعمار، يطفو على السطح سؤال مرير: أين أولئك الذين يصفون أنفسهم بواجهة المجتمع؟ أين الفنانون والمشاهير، الصحفيون الذين ملأوا الدنيا ضجيجاً، والليبراليون والحداثيون الذين يقدّمون أنفسهم بوصفهم قادة للرأي العام؟
الغائبون أكثر من الحاضرين. والشعب وحده، بجهده ولقمته، ينهض ليموّل مستقبله.
“ذاكرة قريبة: “تركيا قلب واحد”
يعيدنا الصحفي السوري المعروف قتيبة ياسين إلى مشهد قريب. بعد زلزال تركيا عام 2023، أطلق الأتراك حملة تضامن تحت شعار “تركيا قلب واحد”. لم تكن حملة عادية؛ كانت ملحمة وطنية حقيقية. خلال سبع ساعات فقط جُمِع أكثر من ستة مليارات دولار، شارك فيها الفنانون والرياضيون والسياسيون ورجال الأعمال، حتى محطات التلفزة والإذاعات توحدت لتبث الحملة على الهواء مباشرة.
كتب ياسين عن تلك اللحظة قائلاً: “كان الجميع هناك، الفنانون والأثرياء والمشاهير، يضعون أيديهم في يد الشعب ليقولوا له: لسنا بعيدين عنكم.”
سورية 2025: الشعب وحده في الساحة
ليس مطلوباً منكم أن تتبرعوا، لكن ربما مطلوب منكم أن توهموا هذا الشعب بأنكم تهتمون لأمره
واليوم، حين ينطلق السوريون في حوران ودير الزور وإدلب وريف دمشق، بحملات تحمل أسماء مثل “ابشري حوران”، “دير العز”، “الوفاء لإدلب”، و”ريفنا بيستاهل”، فإن الصورة مختلفة تماماً. الشعب موجود. الناس العاديون يتبرعون بما يقدرون عليه: فلاح يبيع قنطار قمح، مغترب يرسل بضع مئات من الدولارات، صاحب بقالية يضع ما في صندوقه. لكن الفنانين؟ المؤثرون؟ الصحفيون النجوم؟ صامتون.
وهنا يعلّق ياسين بحرقة: “ليس مطلوباً منكم أن تتبرعوا، لكن ربما مطلوب منكم أن توهموا هذا الشعب بأنكم تهتمون لأمره. كان يكفي أن تضعوا بوست صغير أو ستوري على إنستغرام بجانب قصص نجاحاتكم المبهرة وأسلوب حياتكم الفاره.”
جدار العزلة بين “النخبة” والشعب
هذا الغياب ليس جديداً. منذ سنوات الثورة الأولى، كان أغلب الفنانين السوريين واقفين على منصة السلطة، يصفقون للطغيان، يبررون البراميل، ويحوّلون المأساة إلى مشهدية رخيصة على شاشات التلفزة. والآن، بعد سقوط ذلك النظام، ها هم يواصلون الغياب، لكن بوجه جديد: معارضة الرئيس الجديد أحمد الشرع، وكأن القضية كلها مجرد حسابات سياسية أو مواقف شخصية.
الشعب لا يسألهم اليوم عن ولائهم السياسي، ولا عن مواقفهم العقائدية، ولا حتى عن آرائهم في الشرع أو غيره. الشعب كان ينتظر منهم إشارة صغيرة، مجرد إيماءة، كلمة تضامن. لكنهم اختاروا أن يتركوا هذه اللحظة تمر كما تركوا عشر سنوات من الدم تمر قبلها.
رسالة ياسين: فرصة ضائعة جديدة
ياسين يكتب بمرارة: “كم تأتيكم الفرص لترتقوا خرقاً اتسع بينكم وبين الشعب، وتصرّون على رفض كل الفرص؟” ثم يضيف: “ربما كان سيكتفي منكم الشعب بمجرد المشاركة الرمزية، لكنكم أدرتم ظهوركم.”
إنها رسالة واضحة: ليست القضية بالمال، بل بالموقف. الفنان، الكاتب، الصحفي، المؤثر، كلهم واجهة اجتماعية من المفترض أن تلعب دور الجسر بين الناس والسلطة، بين الألم والأمل. لكن في سوريا، هذا الجسر انهار منذ زمن بعيد، وما زالوا يرفضون إعادة بنائه.
من يمثل المجتمع حقاً؟
قد يقول قائل: “ما أهمية مشاركة الفنانين أو المؤثرين؟ هل ستغير شيئاً؟” والجواب واضح: نعم، ستغير. حين يرى الفلاح أو العامل أو الطالب أن فناناً كبيراً يشارك في حملة تبرع—even ببوست بسيط—فإنه يشعر أن صوته ليس غريباً، وأن معاناته ليست في عزلة. التأثير المعنوي، لا المادي، هو ما يجعل الناس يندفعون أكثر، ويمنحهم شعوراً بأنهم ليسوا وحدهم في هذه الرحلة الشاقة.
لكن هؤلاء الذين يصفون أنفسهم بـ”واجهة المجتمع” فضلوا أن يبقوا في أبراجهم العاجية. فضّلوا أن ينشروا قصص حياتهم الباذخة، رحلاتهم، حفلاتهم، وأطباقهم الفاخرة، بينما الشعب يتقاسم رغيف الخبز ليتبرع بجزء منه لصندوق إعمار بلده.
الشعب لم يعتمد عليهم يوماً
السوريون لا يحتاجون إلى مهرجين ليذكّروهم بأنهم شعب واحد
منذ بداية الثورة السورية عام 2011 وحتى اليوم، أثبت السوريون أن قوتهم في أنفسهم. لم ينتظروا فناناً ولا صحفياً “نجماً”، ولم يتكئوا على مَن باع نفسه للسلطة بالأمس ويعارض الرئيس الحالي اليوم لمصالحه الخاصة. هؤلاء لا يمثلون المجتمع، ولا يشعرون بنبضه، ولا يعيشون معاناته.
كتب ياسين، وانتقد، ووجّه رسالته، لكن الحقيقة أن الشعب سبق كلماته: السوريون لا يحتاجون إلى مهرجين ليذكّروهم بأنهم شعب واحد. هم يعرفون ذلك، ويمارسونه، ويؤكدونه كل يوم حين يتبرعون بما يملكونه، ولو كان قليلاً.
وهكذا، يظل الغياب المدوي لأولئك “المؤثرين” مجرد دليل إضافي على أنهم غرباء عن هذا المجتمع. أما الذين يضعون الليرة بجانب الليرة، والدمعة بجانب الدمعة، فهم وحدهم الذين سيكتبون غداً جديداً لهذا البلد.