
بين بقرة موسى وسوريا: دروس في الفهم والمماطلة
- ودق - Wadaq
- يناير 31, 2025
- سوريا, سياسة
- سوريا
- 0 Comments
لم يكن وصول السيد أحمد الشرع إلى رئاسة سوريا مجرد تبديل للأسماء أو تغيير في الوجوه، بل كان نقطة تحول في التاريخ السياسي للبلاد، لحظة فاصلة نقلت سوريا من حقبة الاستبداد والانغلاق إلى عهد جديد سيُبنى على الأمل والمسؤولية والواقعية السياسية. هذه المرحلة ليست مجرد تغيير في رأس السلطة، بل هي إعادة تعريف لكيفية إدارة الدولة، انتقال من حكم الفرد المطلق إلى قيادة تحمل مشروعاً وطنياً، قيادة تدرك أن الشرعية لا تُستمد من الشعارات، بل من العمل الجاد في إعادة بناء بلد دمرته عقود من الاستبداد وصراعات القوى المتداخلة.
السيد أحمد الشرع لم يأتِ بوعود زائفة، ولم يطرح أحلاماً غير واقعية، بل حمل معه رؤية تنطلق من معطيات الواقع، رؤية تدرك أن إعادة بناء سوريا تحتاج إلى الوقت والصبر، وإلى تضافر الجهود بين القيادة والشعب، وليس إلى انتظار معجزات لا وجود لها.
من صمت الاستبداد إلى صخب المطالب: معادلة جديدة
حين كان المخلوع بشار الأسد يحكم سوريا، كان المواطن مجرد رقم في حسابات السلطة، محاصراً بالخوف، عاجزاً حتى عن التلميح بحقه في الحياة الكريمة. لم يكن أحد يجرؤ على المطالبة بالكهرباء أو الماء أو حتى أبسط حقوقه اليومية، لأن السلطة كانت تعتبر أي احتجاج أو شكوى تحدياً مباشراً لحكمها. كانت البلاد تعيش في حالة من السكون القسري، حيث الجميع يعلم أن الحديث عن التغيير قد يكون مكلفاً أكثر من احتمال الصمت.
لكن اليوم، تغيرت المعادلة، وأصبح الشعب الذي كان يهمس في الخفاء يرفع صوته علانية، يطالب بالإصلاحات ويضع قائمة طويلة من التحديات التي يجب حلها فوراً، وكأن إعادة بناء دولة من تحت الرماد يمكن أن تتم بين ليلة وضحاها. لا أحد ينكر أن سقف التوقعات ارتفع، وهذا حق مشروع، لكن الواقعية تفرض علينا أن ندرك أن الخراب الذي استمر لعقود لا يمكن إصلاحه بلمسة سحرية.
القيادة الجديدة تواجه إرثاً ثقيلاً من الفساد والانهيار الإداري، من تآكل مؤسسات الدولة إلى فقدان الهوية الاقتصادية، من التدخلات الخارجية إلى غياب سجل مدني حقيقي، وهي تحديات لا تُحل بالشعارات، بل تحتاج إلى إعادة بناء ممنهجة، خطة طويلة المدى تستند إلى رؤية واضحة وصبر سياسي وشعبي على حد سواء.
بين بقرة موسى وسوريا: دروس في الفهم والمماطلة
قصة بقرة موسى، كما وردت في القرآن الكريم، لم تكن مجرد سرد ديني، بل هي نموذج يُظهر كيف يمكن للمجتمعات أن تعقّد الحلول حين تماطل، وتضع العوائق في طريق نفسها. حين أمر الله بني إسرائيل بذبح بقرة، كان المطلوب واضحاً، لكنهم لم ينفذوا، بل بدأوا يسألون عن لونها وهيئتها وعمرها، حتى جعلوا الأمر أكثر صعوبة عليهم، رغم أن المطلوب كان بسيطاً منذ البداية.
اليوم، في سوريا، يتكرر المشهد بشكل مختلف. إعادة بناء البلاد تحتاج إلى خطوات عملية، إلى جهد جماعي، إلى إدراك أن الإصلاح لا يأتي بجدالات فردية لا أسس سياسة أو علمية لها، بل بمشاركة الجميع في البناء. لكن بدلاً من ذلك، هناك من يختار أن يُغرق المرحلة في الجدالات العقيمة، يبحث عن تفاصيل جانبية، يطالب بنتائج فورية دون أن يساهم في العمل، وكأن سوريا ستنهض وحدها دون أن يتحمل شعبها جزءاً من المسؤولية.
القيادة وحدها لا يمكنها صنع المعجزات، الدولة لا تُبنى بمجرد قرارات عليا، بل تحتاج إلى مواطن واعٍ، يدرك أن التنمية مسؤولية جماعية، وأن الانتقال من مرحلة الفوضى إلى الاستقرار يتطلب وقتاً وجهداً وليس مجرد انتقاد مستمر دون مشاركة حقيقية.
الانتقال من عقلية المعارضة إلى عقلية البناء
سوريا الجديدة لا تحتاج فقط إلى قيادة سياسية، بل تحتاج إلى تغيير في العقلية المجتمعية. الثورة لم تكن مجرد احتجاج ضد النظام السابق، بل كانت بحثاً عن دولة عادلة، عن نظام إداري واقتصادي متماسك، عن بيئة سياسية تمهد للاستقرار. لكن ما لا يدركه الكثيرون هو أن المعارضة لا يمكن أن تبقى في وضعية المعارضة إلى الأبد، هناك لحظة يجب فيها الانتقال إلى العمل، إلى البناء، إلى تقديم الحلول بدل الاكتفاء بالنقد.
الطريق الذي بدأناه لم يكن طريقاً نحو الفوضى، بل نحو إعادة التأسيس، وهذا يتطلب وعياً جماعياً بأن التغيير ليس مجرد تغيير وجوه، بل تغيير آليات التفكير، وطريقة إدارة الدولة، وأن المسؤولية الآن ليست فقط على الرئيس الجديد، بل على كل فرد في هذا المجتمع.
الطريق إلى سوريا التي نستحقها
رئاسة السيد أحمد الشرع ليست نهاية الرحلة، بل بدايتها. ليست مجرد تغيير سياسي، بل خطوة أولى في إعادة بناء هوية وطنية جديدة، دولة قائمة على المؤسسات، لا على الولاءات الشخصية أو عدم الولاء لها، بل على أساس الولاء للوطن و مصلحته.
لم يعد الحكم في سوريا قائماً على تأليه القائد، بل على مبدأ أن المسؤول هو خادم للشعب، لا سيد عليه. لكن الشعب أيضاً مسؤول عن إنجاح هذه المرحلة، عن فهم تعقيداتها، عن إدراك أن الحلول ليست فورية، وأن البناء يتطلب جهداً وصبراً وعقلاً يعمل وليس فقط يطالب.
لم يعد هناك مجال للبحث عن العصا السحرية، ولا لانتظار التغيير كأنه هدية تسقط من السماء. سوريا الجديدة تحتاج إلى رجال دولة، لا شعارات، إلى شعب يدرك أن الحقوق تُنتزع بالعمل والالتزام، لا بالانتظار والتذمر.
هذا وطن لن يُبنيه سوى أبنائه، ولن يُعاد له مجده إلا بعقولهم وسواعدهم، لا بمطالبهم وحدها„
بقلم أحمد خليف