سوريا الجديدة بين اقتصادين: حين تُعيد التجارة رسم خريطة الانقسام الوطني

في ظلال المعارك التي وضعت أوزارها أخيراً، وبين أنقاض دولة أنهكتها حرب لم تبقِ ولم تذر، تلوح اليوم في الأفق ملامح صراع من نوع آخر في سوريا: صراع اقتصادي يُعيد تشكيل الخريطة الوطنية بطريقة قد تكون أخطر من السلاح.

بعد سقوط النظام القديم، سعت الحكومة الانتقالية إلى إنعاش الاقتصاد السوري بإطلاق انفتاح غير مسبوق على السوق العالمية، خصوصاً مع الجارة تركيا، ما حرّك عجلة التجارة، لكن في الوقت ذاته، أشعل تنافساً خفياً بين شمال البلاد وجنوبها.

مناطق إدلب والشمال السوري، التي كانت طوال سنوات الحرب معاقل للمعارضة، سرعان ما تحوّلت إلى بؤر تجارية نابضة، الأسواق امتلأت بالبضائع التركية المستوردة، الأسعار انخفضت نسبياً، والحركة التجارية انتعشت بما لم تعهده سوريا منذ عقود، التجار المحليون الذين كانوا يعيشون في ظلال الحرب وجدوا أنفسهم فجأة في قلب دورة اقتصادية جديدة، تُفتح فيها الحدود أمام الاستيراد، وتُزال فيها كثير من القيود التي كانت تُكبّل الأسواق.

في المقابل، في دمشق وحمص والمدن الكبرى التي كانت تحت سيطرة النظام السابق، بدا المشهد مختلفاً تماماً، رجال الأعمال التقليديون، الذين بنوا إمبراطورياتهم تحت مظلة الحماية الاقتصادية لنظام الأسد، وجدوا أنفسهم اليوم أمام منافسة ساحقة لا قبل لهم بها، لم تعد احتكاراتهم تحميهم من السلع التركية الرخيصة، ولم يعد بإمكانهم الاعتماد على النفوذ السياسي لتصفية المنافسين، سقطت الامتيازات القديمة دفعة واحدة، ولم تترك لهم سوى الذكريات.

هيثم جودة، أحد كبار رجال الأعمال الدمشقيين، عبّر بمرارة عن هذا التحول قائلاً: “لقد كنا أسياد السوق لعقود… الآن أصبحنا غرباء في بلدنا”، بينما في الشمال، كان محمد البدوي، أحد تجار إدلب، يحتفل بازدهار تجارته قائلاً: “سوريا الجديدة فتحت لنا أبواب الرزق، بعد سنوات من الجوع”.

غير أن هذه الديناميكية الاقتصادية الجديدة ليست بدون مخاطر، فالتفاوت بين الشمال والجنوب آخذ في الاتساع، ليس فقط على مستوى الدخل والثروة، بل أيضاً على مستوى النفوذ السياسي والاجتماعي، الشمال المزدهر يزداد ثقة بنفسه، يطور مؤسساته، يجذب استثمارات جديدة، بينما الجنوب يغرق أكثر فأكثر في البطالة والتهميش.

يقول البعض بأن هذا الانقسام الناشئ ينذر بخطر حقيقي: أن تنشأ “سوريتان” داخل حدود دولة واحدة، واحدة ديناميكية منفتحة تتطلع إلى المستقبل، وأخرى مترددة حائرة بين أطلال الماضي. وإذا لم تُسارع الحكومة الانتقالية إلى معالجة هذا الخلل، عبر سياسات تنموية عادلة توزع الفرص بشكل متوازن، فإن الوحدة الوطنية التي قاتل السوريون ودفعوا دماءهم من أجلها ستكون مهددة من الداخل، لا من الخارج.

الطريق إلى سوريا واحدة، موحدة، لا يمر فقط عبر إنهاء الحرب والسلاح، بل عبر بناء اقتصاد عادل، يضمن لكل سوري لم تتلطخ يداه بدماء السوريين، مهما كان انتماؤه أو منطقته، نصيباً حقيقياً في خيرات وطنه، أما تجاهل هذه الحقائق الاقتصادية الجديدة، فسيكون بمثابة زرع قنابل موقوتة تحت أنقاض وطن لم يكد يلتقط أنفاسه من حرب مدمرة.

ما تحتاجه سوريا اليوم ليس فقط إعادة إعمار الحجر، بل إعادة بناء العدالة الاقتصادية التي وحدها يمكنها أن تعيد للسوريين إيمانهم بوطنهم ومستقبلهم.

اترك تعليقا