حين ترنح الطاغوت

“حين ترنّح الطاغوت”… أول رواية بعد سقوط نظام الأسد

الحكايات التي لم تُروَ، الأصوات التي خُنقت، والدموع التي جفّت قبل أن تجد من يسمعها… كلّها تخرج اليوم من ظلام الصمت إلى نور الكلمة، بعد سقوط نظام الأسد، صدرت رواية “حين ترنّح الطاغوت: مذكّرات من قصر زعرور” للكاتب أحمد خليف لتُسجّل، ولأول مرّة من بعد نهاية ذلك الكابوس، روايةً شاملةً تعكس وجدان الثورة السورية، وتُضيء المناطق المعتمة من التاريخ القريب، حيث لا توثيق رسمي ولا اعتراف نزيه.

الرواية، الصادرة بالتعاون مع دار فضاءات للنشر والتوزيع، لا تدّعي الحياد، ولا تسير في خطابات الرمادية التي اعتادتها بعض النصوص بعد الحروب، بل تقف و كما عودنا الكاتب في رواياته السابقة “مشاعر باردة” و “من رحم الشيطان”، بصراحةٍ أدبية وشجاعة إنسانية، في صفّ المظلوم، وتكتب قصّته على لسانه لا بالنيابة عنه، وتُعري الطاغية لا كرهاً فقط، بل فضحاً للمنظومة التي بنى عليها حكمه وسقوطه.

“حين ترنّح الطاغوت” ليست مجرد سرد روائي، بل بناءٌ أدبي قائم على عشرات التفاصيل التي تمّ تجميعها، وتمثيلها أدبياً، من شهادات حقيقية، ومشاهد حيّة، وقراءات عميقة في طبيعة الدولة الأمنية التي حوّلت سوريا إلى سجن كبير.

الرواية لا تكتفي برصد التحوّلات على الأرض، بل تتسلل إلى داخل القصر الجمهوري، إلى غرف القرار، إلى لحظات الذعر، إلى ارتباك الطاغية حين بدأ يسمع صوت الشارع يخترق جدران قصره السميك، إلى خيانات من حوله، وتخبّط عائلته، وارتباك جهازه الأمنيّ في احتواء المدّ الشعبيّ.

في الرواية مشهدٌ طازجٌ لم يسبق أن كُتب بهذه الصيغة، عن اللحظة التي سقط فيها الجدار الأخير من أوهام السيطرة، حين ارتجف صوت الطغيان، وحين سقطت الأقنعة عن وجوه طالما صدّرت الشعارات، وبقيت تمارس الطغيان في الخفاء، تكشف الرواية عن استخدام الفنّ والإعلام والدين كأدوات تزييف، وكيف كان الطغاة يصنعون الولاء بالخوف، ويصنعون الوطنية بتمزيق الكرامة.

وفي المقابل، تأخذنا الرواية إلى قلوب الناس، إلى الأحياء المحاصرة، إلى الزنازين التي شهدت أقسى أنواع العذاب، إلى المخيمات التي أنشأ فيها المهجّرون حياةً بديلةً رغم البؤس، تنقل الرواية وجع الأمهات اللواتي ودّعن أبناءهن دون قبر، وتحكي عن جيلٍ كاملٍ نشأ على أصوات القصف بدل التراتيل، على رائحة التراب المبلول بالدم بدل رائحة الطباشير في المدارس.

الرواية لا تُخاطب القارئ بعين المتفرّج، بل تُشركه في الذاكرة، وتدعوه إلى أن يكون شاهدًا ومسؤولًا. تنحاز للناس، وتكتب بلغتهم، وتحفظ وجوههم في الذاكرة الجماعية، لا كما أراد النظام أن يمحوها أو يزيّفها.

“حين ترنّح الطاغوت” ليست فقط أول رواية بعد سقوط النظام، بل هي الرواية التي كانت تنتظرها سوريا لتبدأ الكتابة بصوتها، لا بصوت الرقابة ولا بلغة الخوف، إنّها باكورة أدبية لحقبة جديدة، لا تنوي أن تنسى، ولا أن تسامح الظلم، لكنها تنشد أن تُبنى سوريا القادمة على ذاكرةٍ نزيهة، لا تمحو من ضحّوا، ولا تزيّف من صمدوا، ولا تبرّئ من خانوا.

هذه الرواية تأتي في لحظة حرجة، لحظة تتنازع فيها السرديات، وتتضارب فيها الروايات، ويتكاثر فيها المتحدثون باسم الثورة، لكنّها لا تصرخ ولا تدّعي، بل تحكي بهدوء الإنسان الذي عاش، وتألم، ثم كتب، هي شهادة أدبية في زمنٍ بدأت فيه معركة الذاكرة بعد أن وضعت الحرب أوزارها.

“حين ترنّح الطاغوت” ليست روايةً تُقرأ لتُنسى، بل رواية تُقرأ لتُخلّد، لتُحفظ كوثيقةٍ إنسانية، وكسرديةٍ صادقة، لأولئك الذين كتبوا التاريخ بدمائهم، فأنصفهم الأدب حين قصّرت السياسة.

اترك تعليقا