سوق مدحت باشا… ذاكرة التجارة الدمشقية ومرآة الاقتصاد السوري
- ودق - Wadaq
- نوفمبر 15, 2025
- اقتصاد, الأسواق الشعبية السورية
- اقتصاد, الأسواق الشعبية السورية, تجارة, دمشق, سوريا, سوق مدحت باشا
- 0 Comments
شبكة ودق الإخبارية – محمد السلوم
في قلب دمشق القديمة، حيث تختلط رائحة التاريخ بصوت الحجارة العتيقة، يمتد سوق مدحت باشا كواحد من أهم الشواهد الاقتصادية والثقافية التي طبعت ملامح المدينة لأكثر من قرن. لم يكن السوق يومًا مجرد شارع تجاري، بل كان مساحة نابضة بالحياة، تختزن إرثًا اجتماعيًا واقتصاديًا شكل هوية دمشق الحديثة، ورسّخ حضورها كمدينة لا تنام تجارتها ولا تتوقف حركتها.
عرف السوق في سنوات ازدهاره قبل عام 2011 كأحد أهم مراكز تجارة الأقمشة في المنطقة، ليس لسوريا فقط، بل لكثير من دول الجوار. فقد كان التجار يقصدونه من لبنان والأردن والعراق ودول الخليج، كما كان يشكل المحطة الأساسية لتجار الجملة من المحافظات السورية كافة. ومع الوقت، تحول السوق إلى قلب نابض يضخ البضائع والسلع في مختلف الاتجاهات، ويُعيد توزيعها على شبكة واسعة من الأسواق التي يمتد تأثيرها من دمشق إلى أقصى الريف السوري.
وكانت العلاقة بين سوق مدحت باشا والأسواق المجاورة علاقة تكامل وليست تنافسًا. فمن الحميدية، الذي يجذب السياح والمتسوقين الباحثين عن التحف والهدايا، كانت الرحلة تنتهي غالبًا عند مدحت باشا، حيث تتنوع الأقمشة وتتعدد خيارات الشراء. وكانت الأسواق المحيطة بالبزورية والحريقة وسوق الصوف تشكل سلسلة اقتصادية مترابطة، تعتمد على بعضها البعض في حركة المتاجر، ما يجعل المدينة القديمة ورشة عمل متكاملة لا تهدأ.
لم يكن حضور السوق اقتصاديًا فحسب، بل كان فضاء اجتماعيًا واسعًا تجمع فيه مختلف الطبقات. العائلات الدمشقية التي تأتي لشراء مفروشات جديدة، والعرسان الذين يجولون بين أجمل الأقمشة استعدادًا لحياتهم الجديدة، والتجار القادمون من الأرياف الذين يجدون في السوق نافذتهم التجارية إلى المدينة. كان السوق بمثابة مسرح يومي تلتقي فيه العادات الشعبية مع المظاهر الحضرية، وتتعانق فيه الأصالة مع النشاط التجاري الحديث، ما جعله رمزًا للتجارة الشرقية التي تجمع بين المهارة والوجدان، بين التحاور الهادئ وتبادل الثقة.
وفي عمق هذه الحياة اليومية، كان الإرث الثقافي حاضرًا بقوة. الجدران الحجرية، الأبواب الخشبية الثقيلة، الأقواس العالية التي تحفظ أصداء الخطوات والأسعار والنداءات. كل تفصيل معماري كان يؤدي وظيفة اقتصادية مباشرة. فالسقف الحجري الطويل الذي يغطي السوق كان يوفر بيئة مثالية للعمل صيفًا وشتاءً، بينما كانت الممرات الواسعة نسبيًا تسهل حركة الزبائن والبضائع، حتى تبدو وكأنها بنيت خصيصًا لاستيعاب هذا النشاط التجاري الدائم.
ازدهار السوق ارتبط بشكل مباشر بطبيعة السلع المتداولة فيه. فالأقمشة كانت جوهر التجارة، ليس فقط لأنها سلعة مطلوبة دائمًا، بل لأنها جزء من ثقافة البيت الدمشقي ذاته. كان الحرير الطبيعي هو سيد الأقمشة، القادم من إيران والصين وفرنسا، والذي كانت دمشق تدخله في صناعاتها التقليدية لتقدمه بنكهة محلية فريدة. وكان البروكار الدمشقي يحتل مكانة مميزة، بخيوطه اللامعة التي تُنسج بنمط فني يعكس الحرفية التي اشتهرت بها المدينة عبر مئات السنين. أما الأقمشة المزخرفة للمفروشات فقد شكلت ركنًا أساسيًا في الطلب الداخلي، إذ اعتمد عليها الدمشقيون لتزيين بيوتهم، ولطالما كانت جزءًا من هدايا العرائس ومظاهر الاحتفال.
وإلى جانب هذه السلع الفاخرة، كان السوق يعرض أنواعًا أخرى من الأقمشة الشعبية واليومية التي تخدم حاجات الأسر بأسعار مختلفة. القطنيات الملونة، أقمشة العباءات النسائية، والأقمشة البسيطة المستخدمة للمفروشات اليومية. ومع توسع النشاط التجاري، دخلت الملابس الجاهزة بقوة إلى السوق، وخاصة ملابس الأطفال والملابس الداخلية، ما زاد من تنوع الزبائن ورفع حجم المبيعات.
أهمية السوق لا يمكن فهمها دون النظر إلى حجم النشاط التجاري الذي كان يضج به. مئات المحلات كانت تعمل يوميًا بطاقة كاملة، وتستقبل آلاف الزوار في المواسم، خاصة قبل الأعياد ومواسم الأعراس وبداية العام الدراسي. كما كانت حركة الجملة تمثل الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي، إذ تُبرم الصفقات الكبيرة في المحال الخلفية أو المستودعات، وتُشحن البضائع إلى المحافظات وإلى الدول المجاورة، ما يجعل السوق مركزًا من مراكز تبادل السلع على المستوى الإقليمي. وكانت سرعة دوران رأس المال في السوق عالية، فالبضاعة لا تبقى طويلًا في المستودعات، بل تنتقل بسرعة من المورد إلى البائع ومن ثم إلى المستهلك، وهو ما يعكس ديناميكية اقتصادية قلّ نظيرها في المنطقة.
ورغم كل هذا الازدهار، جاءت السنوات ما بعد 2018 لتترك أثرًا قاسيًا على السوق. فقد تراجعت نوعية البضائع بشكل ملحوظ، وانخفضت الكميات المعروضة بنسبة كبيرة، بعد أن فقد التجار قدرتهم على الاحتفاظ بمخزون استراتيجي، واضطروا إلى العمل وفق دفعات صغيرة بسبب نقص السيولة وعدم استقرار الأسعار.

