دبسي فرج: المدينة الغارقة التي عادت إلى الضوء

الرقة – الريف الغربي

على ضفاف الفرات، وفي قلب البادية السورية، تنهض من تحت الماء حكاية مدينة غمرتها البحيرة قبل نصف قرن، لتعود اليوم إلى الواجهة بعد أن انحسر عنها الغياب. دبسي فرج، القرية الأثرية التي ابتلعتها مياه سد الثورة (الطبقة) عام 1974، تطل من جديد في سبتمبر 2025 إثر انخفاض غير مسبوق في منسوب مياه البحيرة، كأنها تفتح صندوق أسرارها المدفون منذ آلاف السنين.

الموقع الجغرافي والتاريخي

تقع دبسي فرج على الضفة الغربية لنهر الفرات، بارتفاع يقارب 295 مترًا عن سطح البحر، في منتصف المسافة بين تل مريبط ومسكنة (إيمار القديمة)، على بعد نحو 40 كيلومترًا من كل منهما. هذا الموقع الاستراتيجي جعلها منذ القدم محطة رئيسية على الطريق التجاري الذي كان يربط أنطاكية بدورا أوربوس، ما منحها دورًا اقتصاديًا وعسكريًا بارزًا منذ القرن الأول قبل الميلاد.

من “أتيس” إلى دبسي فرج

تشير الدراسات الأثرية إلى أن القرية شُيدت على أنقاض مدينة رومانية تُعرف باسم “أتيس” (Athice)، والتي تحولت لاحقًا إلى “قيصرية الجديدة” في العهد الروماني المتأخر. بدأت كمستوطنة صغيرة، ثم تحولت إلى قلعة محصنة ذات سور مزدوج يشبه شكل الكلية أو حبة الفاصولياء، وهو شكل فرضته طبيعة الأرض.

في القرن الثالث الميلادي، أمر الإمبراطور ديوقليسيانوس بتحصين القلعة لمواجهة الفرس، فبنى سورًا دفاعيًا بطول 379 مترًا من الشرق إلى الغرب، وعرض يتراوح بين 75 و220 مترًا. لاحقًا، عزز الإمبراطور جستنيانوس هذه التحصينات بسور إضافي، مستخدمًا بقايا معمارية فخمة مثل تيجان أيونية ومنحوتات نصفية.

العمارة والتحصينات

تضم القلعة أربع بوابات رئيسية، ثلاث منها في الشمال الشرقي، والرابعة في الجنوب، وكل بوابة محصنة ببرجين. الأبراج جاءت بأشكال متنوعة: مربعة، سداسية، ومستطيلة، وبعضها يشبه أبراج موقع حلبية المجاور.

التحصينات لم تكن مجرد جدران، بل تحف معمارية متقنة، حيث استُخدم الآجر المشوي في البناء، وتم ترميم البرج الشرقي ليصبح سداسي الشكل، في دلالة على تطور تقنيات العمارة في العصور الرومانية والبيزنطية.

الحياة المدنية والدينية

لم تكن دبسي فرج مجرد حصن عسكري، بل مدينة نابضة بالحياة. داخل القلعة، شُيد حمام ملحق بمقر الإقامة الرسمي، أرضياته من الفسيفساء وجدرانه مكسوة بالرخام. خارج الأسوار، وُجد حمامان آخران، أحدهما يعود للقرن الرابع الميلادي وجُدد في القرن الخامس، وتزينت أرضيته بمشاهد فسيفسائية ملونة، منها أسد يهاجم غزالًا، ومشهد لربة الصحة “هيجيا”.

كما اكتُشفت كنيسة بازيليكا في الزاوية الجنوبية الشرقية، بأبعاد 28×38 مترًا، تضم فناءً ورواقين شمالي وجنوبي، وأرضية مزخرفة بزخارف هندسية. أضيفت إليها لاحقًا غرفة عبادة صغيرة، ما يعكس استمرار النشاط الديني حتى العصور المتأخرة.

الاستيطان الإسلامي

رغم ارتباطها بالعصور الرومانية والبيزنطية، إلا أن التنقيبات كشفت عن نحو 700 قطعة نقدية بيزنطية وإسلامية، ما يدل على استمرار الحياة فيها بعد الفتح الإسلامي، وربما حتى العصر العباسي.

البعثة الأثرية وإنقاذ التراث

في سبعينيات القرن الماضي، ومع إعلان اليونسكو حملة دولية لإنقاذ آثار حوض الفرات قبل غمرها، جاءت بعثة من جامعة ميشيغين بقيادة عالم الآثار ريتشارد هاربر. أجرت البعثة حفريات سريعة وثّقت خلالها المعالم المعمارية والفنية، قبل أن تبتلع المياه الموقع عام 1974.

كانت دبسي فرج من أبرز المواقع التي جذبت اهتمام الباحثين، لما تحويه من تنوع معماري وتاريخي فريد.

عودة المدينة الغارقة

في سبتمبر 2025، ومع انخفاض غير مسبوق في منسوب مياه بحيرة سد الفرات، بدأت أطلال دبسي فرج بالظهور مجددًا. القلعة وأبراجها وجدرانها خرجت من تحت الماء، لتثير دهشة السكان والباحثين.

عبد الله، أحد أبناء المنطقة، وثّق هذه اللحظة النادرة بعد جولة ميدانية، قائلاً: “كأن التاريخ نفسه خرج من أعماق الماء ليحكي لنا قصته.”

لقاء مع أحد السكان: محمد الخلف السلوم

في ظل شمس خريفية دافئة، جلس محمد الخلف السلوم على مقعد خشبي أمام منزله في البادية السورية، وعيناه تسرحان بعيدًا نحو الشمال، حيث كانت قريته دبسي فرج ترقد تحت مياه بحيرة سد الفرات منذ أكثر من نصف قرن. بصوت متهدج، بدأ حديثه:

“كنت شابًا في أوائل العشرينات حين جاءنا الخبر أن المياه ستغمر القرية. لم نكن نصدق أن بيوتنا، مزارعنا، وحتى مقابر أجدادنا ستختفي تحت الماء. في الأيام الأخيرة قبل الغمر، كان الناس يخرجون إلى الشوارع، يتبادلون النظرات الصامتة، وكأننا نودع بعضنا إلى الأبد.”

يروي محمد كيف جاءت فرق المسح والإنقاذ، وكيف حاولت بعض العائلات إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأبواب الخشبية، الحجارة المزخرفة، وحتى أشجار الرمان التي كانت تزين الساحات.

“أتذكر جيدًا يوم بدأ الماء يتسلل إلى الأزقة. كان المشهد أشبه ببطء غريب، لكنه لا يرحم. كنا نرى السور القديم للقلعة يختفي شيئًا فشيئًا، حتى غمرته المياه بالكامل. شعرت حينها أن جزءًا من روحي قد غرق معه.”

بعد الغمر، انتقل محمد وعائلته إلى البادية، على بعد سبعة كيلومترات جنوب الموقع القديم. هناك، بدأوا حياة جديدة، لكن ذكريات القرية بقيت حاضرة في كل جلسة، وكل حكاية تُروى للأطفال.

واليوم، مع انخفاض منسوب المياه في سبتمبر 2025، عاد محمد إلى المكان الذي كان يومًا ما قلب حياته. وقف أمام أطلال القلعة التي ظهرت من جديد، يلمس حجارتها بيديه، وكأنه يحيي صديقًا قديمًا عاد من سفر طويل.

“لم أتخيل أنني سأراها مرة أخرى. هذه الحجارة تعرفنا، وتحفظ أصواتنا وضحكاتنا. دبسي فرج لم تمت، كانت فقط نائمة تحت الماء.”

أهمية الموقع اليوم

عودة دبسي فرج ليست مجرد ظاهرة طبيعية، بل تذكير حي بقيمة التراث السوري وضرورة الحفاظ عليه. في ظل التغيرات المناخية، قد تكشف المياه المنحسرة عن مواقع أثرية أخرى، ما يستدعي استعدادًا علميًا ومؤسساتيًا للاستفادة من هذه الفرص.

كما يمكن أن تتحول دبسي فرج إلى وجهة سياحية وثقافية إذا ما تم ترميمها وتوثيقها، لتصبح شاهدًا حيًا على حضارات تعاقبت على ضفاف الفرات.

دبسي فرج ليست مجرد قرية غمرتها المياه، بل مدينة تاريخية عادت لتروي حكاية آلاف السنين من الحضارة. من مستوطنة رومانية إلى قلعة بيزنطية، ومن كنيسة بازيليكا إلى حمامات مزخرفة، ومن بعثة إنقاذ إلى ظهور مفاجئ في 2025، تبقى دبسي فرج رمزًا لصمود التاريخ أمام تقلبات الطبيعة.

في زمن تتسارع فيه الأحداث وتغيب فيه الذاكرة، تذكرنا دبسي فرج بأن الأرض تحتفظ بأسرارها، وأن كل حجر فيها يحمل قصة تستحق أن تُروى

✍️ عبدالله الأحمد

#دبسي_فرج#Dibsi_Farg#ودق#الرقة

اترك تعليقا