حلب تنهض من رمادها: بين أنقاض الحرب، شعب يكتب فصلاً جديداً من الصمود

تحت أنقاض أربع عشرة سنة من الحرب الضروس، حيث لا تميّز العيون بين الركام والطرقات، ولا بين الدمار وأحلام العودة، تتسلل اليوم مشاهد مذهلة من مدينة حلب، المدينة التي حاصرها القصف والجوع والموت، لكنها أبت أن تموت. بين الأزقة المدمرة، وبأيدٍ عارية إلا من الإيمان، يبدأ الحلبيون رحلتهم البطولية في إعادة بناء حياتهم حجراً فوق حجر.

رويترز نقلت عن لسان أهالي حلب حكاية مأساوية تتحدى كل حسابات السياسة والاقتصاد: لا دولة تساعدهم، لا منظمات دولية تمد لهم يد العون، فقط إرادتهم العنيدة هي رأس مالهم الوحيد. فهنا في ريف حلب الشمالي، يعود موسى حج خليل، الرجل الستيني الذي أُجبر على قضاء سبع سنوات في خيام النزوح قرب الحدود التركية، ليجد منزله مهدماً بالكامل. لكنه، دون أن ينتظر أحداً، حمل معوله وأعاد بناء غرفة بسيطة، يقيم فيها مع أسرته كأنها قصر من قصور الأمل.

هذه المشاهد ليست فردية، بل هي ظاهرة تتسع يوماً بعد يوم. إذ تعجز الحكومة السورية الجديدة، التي تسلمت الحكم بعد إسقاط النظام السابق أواخر العام الماضي، عن تأمين دعم حقيقي لعملية إعادة الإعمار. فرغم وعودها بإصلاح الاقتصاد وإنهاء عقود الفساد التي نخرت البلاد، إلا أن الكارثة كانت أكبر من قدرة أي حكومة فتية على معالجتها وحدها.

لكن الأهم، هو ذلك التحول النفسي العميق الذي يعيشه الحلبيون. فهم، وقد خبروا الغربة واللجوء ومآسي المخيمات، قرروا أن العودة مهما كانت مريرة أفضل ألف مرة من البقاء في عالم الانتظار المهين. قالها موسى حج خليل بصوت متعبٍ مغموسٍ بالتصميم: “أنام على الأرض بين الجدران المحطمة، أفضل من أن أنتظر عطف المنظمات”.

حلب اليوم ليست مجرد مدينة تلتقط أنفاسها بعد حرب، بل هي رمز لإرادة الحياة. بين ركام الأسواق القديمة، وصوامع الجامع الأموي المنهار، تُسمع أصوات أطفال يركضون فوق الحجارة، كأنهم يُعلنون للكون أن المدينة لن تُمحى مهما عظمت الجراح. النساء يحملن الماء على رؤوسهن بين الأزقة، والشبان يعيدون بناء الأسقف المتداعية بخشب رخيص، والأطفال يزينون جدران البيوت برسومات بدائية تحلم بسماء صافية.

لا كهرباء منتظمة، ولا ماء نظيف في كثير من الأحياء، ولا طعام كافٍ في أحيان كثيرة. ومع ذلك، لا أحد يترك منزله ثانية. فالوطن بالنسبة لهؤلاء البسطاء لم يكن يوماً قطعة أرض فقط، بل هو كرامة، وهوية، وحياة رغم الموت.

الرهان الآن أمام الحكومة السورية الجديدة: هل ستلتقط هذه الروح الشعبية الفريدة فتدعمها، وتعجل بإعادة الإعمار الحقيقي بعيداً عن المحسوبيات؟ أم ستُترك هذه النبتة الخضراء في صحراء الركام لتصارع وحدها حتى تذبل؟

ما يجري في حلب ليس مجرد ورشة بناء، بل هو درس حضاري للعالم أجمع: أن الإنسان، مهما سُحق ومهما جُوّع ومهما طُرد من دياره، سيعود يوماً ليقول: هنا كنت، وهنا سأبقى.

اترك تعليقا