بعد سقوط النظام: ماذا ربح الاقتصاد السوري خلال عام من الحرية؟

خاص ودق | اقتصاد

عام كامل تغيّر فيه كل شيء

سوريا التي عادت إلى الضوء قبل عام واحد فقط، كانت سوريا محاصرة خلف جدران العقوبات، محرومة من النظام المالي العالمي، تعيش على اقتصاد الظل، وتصارع تضخمًا لا يُروّض، وعزلة دفعت البلاد إلى أحد أدنى مؤشرات الدخل في العالم.
لكن سقوط النظام السابق وولادة مرحلة سياسية جديدة، بقيادة حكومة انتقالية مسؤولة ومنفتحة على العالم، فتح الباب أمام تحولات اقتصادية عميقة لم تكن ممكنة قبل ذلك.

وللمرة الأولى منذ عقدين، عاد الحديث عن اقتصاد سوري قادر على التعافي لا على الانهيار، وعن دولة لديها القدرة على استعادة دورها الطبيعي بدل الدوران في حلقات الفساد والاحتكار والتهريب.

خلال عام واحد فقط، تغيّرت صورة الاقتصاد السوري جذريًا. وهذه قراءة معمّقة لما ربحته سوريا في عام الحرية الأول…
عام سقط فيه النظام، وبدأت فيه الدولة تُبنى من جديد.

أولاً: نهاية العزلة — رفع العقوبات وتخفيف القيود الدولي

الاتحاد الأوروبي: أول ضوء في فبراير 2025

في 24 فبراير 2025 أعلن الاتحاد الأوروبي تعليق عدد من العقوبات المفروضة على سوريا. هذا القرار لم يكن مجرد خطوة سياسية؛ بل كان مفتاح الانفتاح المالي والتجاري ونقطة البداية في إعادة دمج سوريا في النظام الاقتصادي العالمي.

للمرة الأولى منذ 2011، أصبح بإمكان شركات أوروبية التواصل مع سوريا دون مخاطر قانونية كبيرة، وأعيد فتح الباب أمام التمثيل الدبلوماسي الاقتصادي، وبدأت خطوط التفاوض مع بنوك واستثمارات خاصة.

الولايات المتحدة: قرار مفصلي في يونيو 2025

وفي 30 يونيو 2025 صدر قرار رئاسي أمريكي بإلغاء أجزاء من العقوبات عبر OFAC.
الوثيقة الرسمية أوضحت أن القرار «يشمل تسهيلات مالية وتخفيفًا للقيود على التحويلات التجارية».

هذه الجملة وحدها كانت كفيلة بإحداث ارتداد إيجابي فوري على السوق السورية، إذ تراجعت المخاطر المالية، وزادت شهية الاستيراد المشروع، وبدأت شركات تحويل الأموال تعيد تواصلها مع المصارف الدولية.

ثانيًا: عودة سوريا إلى النظام المصرفي العالمي — SWIFT من جديد

نوفمبر 2025: الرسالة الأولى… والعودة إلى العالم

في نوفمبر 2025 أرسلت المصارف السورية رسائلها الأولى عبر شبكة SWIFT بعد قطع دام سنوات طويلة.
هذا الإنجاز يُعد تحولًا تاريخيًا؛ فبدون SWIFT لا يمكن لأي دولة أن تنفذ تجارة خارجية مستقرة أو تحويلات مصرفية موثوقة أو فتح خطوط ائتمان.

النتيجة المباشرة:

أصبحت التحويلات الخارجية أسرع وأقل تكلفة.

باتت التجارة الخارجية تُدار عبر قنوات شرعية لا عبر وسطاء وسماسرة.

عادت الثقة تدريجيًا إلى القطاع المصرفي السوري، ما سمح بفتح حسابات مراسلة مع بنوك إقليمية.

عودة SWIFT وحدها تُختصر بجملة واحدة:
سوريا عادت لتكون دولة لها رقم حساب في العالم.

ثالثًا: موازنة جديدة لبلد جديد — أرقام تكشف تحوّلًا بنيويًا

موازنة 2025: إنفاق استثماري غير مسبوق

التقرير الرسمي لمشروع موازنة عام 2025 أظهر ارتفاع الاعتمادات إلى حوالي 52.6 تريليون ليرة سورية، مع زيادة واضحة في الإنفاق الاستثماري مقارنة بالسنوات السابقة.

القراءة الاقتصادية لهذا التطور:

الدولة الجديدة عادت للاستثمار لا للاستهلاك فقط.

تم توجيه جزء كبير من الاعتمادات إلى الطاقة، البنى التحتية، الخدمات، والإنتاج الزراعي والصناعي.

تم التخلي تدريجيًا عن سياسة الدعم العشوائي واستبدالها بدعم مباشر للأسر الأكثر ضعفًا.

إيرادات الشركات العامة: هدف 2 مليار دولار سنويًا

تصريحات لوزارة المالية أوضحت أن الحكومة تسعى لرفع مساهمة الشركات العامة إلى 2 مليار دولار سنويًا خلال السنوات المقبلة.
هذا الرقم ليس مجرد وعد؛ هو جزء من خطة إعادة تشغيل المصانع المتوقفة واستعادة الأصول المنهوبة.

رابعًا: التجارة تتحرّك — توسّع في الاستيراد وتحسّن تدريجي في التصدي

بيانات CEIC: نمو الواردات 13.2%

تُظهر بيانات التجارة المتاحة نموًا في واردات سوريا بنحو 13.2% على أساس سنوي في نهاية 2024 وبداية 2025.
ذلك النمو انعكس مباشرة على:

تنوع السلع

انخفاض أسعار أصناف رئيسية

عودة خطوط شحن كانت غائبة

زيادة المعروض في الأسواق

عودة المعارض الدولية

إعلان دمشق وحلب عن عودة «المعارض الدولية المتخصصة» شكّل مؤشرًا على أن حركة الاستيراد والتصدير لم تعد محظورة أو متعثرة كما كانت سابقًا.
المعارض ليست مجرد حدث تقني… إنها شهادة عالمية بأن السوق السوري أصبح قابلًا للتعامل التجاري.

خامسًا: الاستثمارات — من الوعود إلى مذكرات التفاهم

MoUs بعشرات المليارات… التنفيذ جاري

تقارير دولية ومحلية أشارت إلى توقيع مذكرات تفاهم بقيمة تقديرية تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات في 2025.

ورغم أن MoUs لا تعني تنفيذًا فعليًا، إلا أن:

وجودها مؤشر على ثقة أولية

وجود شركاء أجانب مستعدين للعمل

وجود مشاريع جاهزة للدراسة أو الإطلاق

الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) لم يعد نادرًا كما كان؛ بل عاد إلى خانة «المحتمل» بدل «المستحيل».

سادسًا: تحسّن ملموس في حياة السوريين

تراجع التضخم — ليس نهاية الأزمة لكنه بداية التحسن

مع تحسن الاستيراد وعودة القنوات المالية، بدأت أسعار السلع تستقر تدريجيًا.

زيادة رواتب الموظفين وإعادة هيكلة الدعم

أقرت الحكومة :

زيادة في رواتب القطاع العام

تخفيف الضرائب على المشاريع الصغيرة

عودة خدمات كانت منهارة مثل الكهرباء والمياه عبر برامج إسعافية

خدمات عامة تتنفس من جديد

التقارير الرسمية تشير إلى:

زيادة ساعات التغذية الكهربائية في معظم المحافظات

تحسّن في خدمات النقل العام

ورش إعادة تأهيل للبنية التحتية في الطرق والمشافي والمدارس

سابعًا: سوريا ما بعد السقوط — من دولة منهكة إلى دولة تنهض

خلال عام واحد فقط، تحاول سوريا الانتقال من حالة الانهيار إلى التعافي، ومن الاقتصاد المغلق إلى الاقتصاد المنفتح، ومن بيئة غير آمنة للمستثمر إلى بيئة قابلة للثقة.

المسار لا يزال طويلًا…
لكن المؤشرات الأولية تقول بوضوح: القطار بدأ يسير على السكة.

ثامنًا: صوت السوريين — ثمن الثورة ليس رخيصًا لكنه أثمر

في نهاية هذه الرحلة لا يمكن تجاهل الحقيقة المؤلمة:
هذا التحول لم يكن ليحدث لولا دماء السوريين وتضحياتهم.

الاقتصاد لم يتحسن من تلقاء نفسه.
لم تنخفض العقوبات من تلقاء نفسها.
ولم تعد سوريا إلى العالم بلا ثمن.

الثورة التي أسقطت النظام أعادت البلاد إلى خارطة العالم.
والسوريون الذين دفعوا الثمن الأغلى هم من يجنون اليوم ثمار عام الحرية الأول…
عام قد لا يكون مثاليًا، لكنه عام البداية.
عام العودة.
عام الأمل.

سوريا تدخل عامها الثاني بعد السقوط وهي تحمل في يدها مفاتيح مبكرة للنهضة الاقتصادية…
وعلى صفحات جرائدها الرسمية، تُكتب هذه المرة قصة مختلفة:
قصة بلد يحاول أن يعيش بكرامة، وأن يبني اقتصادًا يستحقه شعبٌ قدّم كل شيء.

اترك تعليقا