القطاع العام في سورية: إرث الفشل أم فرصة الإصلاح الاقتصادية؟

حرية التعبير ومجال النقاش الاقتصادي الجديد

شهدت سورية في الفترة الأخيرة انفراجاً ملحوظاً في حرية الرأي والتعبير، مما أتاح للمختصين والمستشارين الحكوميين عرض وجهات نظرهم الاقتصادية بشكل مباشر على الجمهور، خصوصاً عبر منصات التواصل الاجتماعي. أحد أبرز هذه الأصوات هو السيد مازن ديروان، مستشار وزير الاقتصاد والصناعة الأول، الذي نشر على صفحته الشخصية في فيسبوك مقالة مركزة انتقد فيها بشدة واقع القطاع العام في سورية وطرح أفكاراً جريئة لإصلاحه. هذا الانفتاح في النقاش الاقتصادي يعكس تحولا مهماً في بيئة صنع القرار والمشاركة المجتمعية، ويستحق دراسة متأنّية لما يطرحه من رؤى.

إرث القطاع العام وسجل الإخفاقات

وفقاً لما ذكره ديروان، فقد تأسس القطاع العام الاقتصادي السوري على يد “اليسار الحاقد والفاسد وعديم الأخلاق” الذي جاء بالنظام البعثي عبر الوحدة مع مصر في 1958. ووصفه بأنه قطاع فاشل، كان مدارته بيد “جهلة بعلوم التسويق والإدارة” وقدّم إنتاجاً منخفض الجودة قليل التنوع ومكلفاً للاقتصاد الوطني. هذه الصورة تشير إلى فشل هيكلي طويل الأمد، استند إلى ممارسات إداريّة سيئة، وارتباطات سياسية ضيّقت العمل الاقتصادي تجاه الكفاءة والحوافز السوقية، وهو ما أدى إلى تراكم خسائر اقتصادية هائلة على حساب ميزانية الدولة وعلى كاهل المواطنين.

الفساد والهدر: كابوس يثقل الاقتصاد

في المقالة، نبه ديروان إلى أن الفساد والرشاوى والمحسوبيات كانت عوامل رئيسية في تحويل القطاع العام إلى عبء اقتصادي وعجز في استخدام الطاقة والموارد والأيدي العاملة. وبالتالي، دفع الشعب السوري ثمن هذه الممارسات مرات متعددة من خلال خسائر مالية متراكمة سنوياً. من الناحية الاقتصادية، هذا يعكس سوء تخصيص الموارد وانخفاض العوائد الاجتماعية للنفقات العامة، وهو ما يقوض قدرة الدولة على الاستثمار في القطاعات الحيوية والتنموية.

الخصخصة: الحل المُرشح وأهدافه

اقترح ديروان حل الخصخصة بشكل كامل للقطاع الصناعي والزراعي الحكومي، وهو أمر يراه ضرورة ملحة لتجاوز الأزمة الاقتصادية. حسب رؤيته، فإن بيع أصول القطاع العام وإدخال العائدات إلى الخزينة العامة يمنح الدولة موارد مالية إضافية تمكنها من إعادة بناء بنيتها التحتية المدمرة وتجديد قطاعاتها الاقتصادية. كما أكد أن الخصخصة يجب أن تتم بشفافية كاملة تحت رقابة الشعب، ولا يجوز بيع الأصول بأسعار تقل عن قيمتها السوقية الحقيقية، لضمان عدم استغلال المحسوبيات أو الأيتام السياسيين لمكتسبات الدولة. هذه المقاربة تنسجم مع النظريات الاقتصادية التي تؤكد أهمية دور القطاع الخاص في تحسين الكفاءة وتحفيز النمو الاقتصادي من خلال المنافسة.

إعادة تعريف دور الحكومة في الاقتصاد

يحاكي ديروان في مقاله فكرة اقتصادية مركزية وهي أن الحكومة ليست من المفترض أن تتولى دور المنتج أو المتعامل المباشر في الأسواق، مثل إنتاج الألبان والأجبان والدهانات، أو حتى الزراعة. بل يجب أن ينحصر دورها في التنظيم وحماية النظام الاقتصادي وضمان العدالة والمنافسة. بهذا المعنى، يدعو إلى دولة تنظّم السوق بدلاً من التدخل المباشر فيه، وهو تحول جوهري نحو اقتصاد السوق الحر بكل ما يحمله من معاني تحفيز الابتكار وإيجاد فرص عمل جديدة.

التحديات السياسية والاجتماعية للإصلاحات

لكن، لا يغفل ديروان عن وجود مقاومة سياسية واجتماعية لهذا التوجه، حيث أشار إلى أن “أيتام البعث واليسار” سيحاولون مناصرة القطاع العام تحفظاً على مصالح المحسوبيات والفساد، مما يعرقل الخصخصة. هذا الواقع يعكس المعوقات المعروفة في اقتصادات ما بعد الأزمات، حيث الإصلاحات الاقتصادية لا تتحقق فقط بموجب قرارات فنية، بل تتطلب توازنات سياسية وتوافقات مجتمعية قوية. فعالية الخصخصة لا تعتمد فقط على النوايا والإجراءات، بل على قدرة الدولة على فرض قواعد شفافة وحوكمة رشيدة.

أسئلة على أبواب الاقتصاد السوري الجديد

مع نهاية هذه الرؤية والتحليل الاقتصادي، يبقى السؤال مفتوحاً أمام السوريين: هل بإمكان الاقتصاد التي يقوده مستشارون اقتصاديون مثل مازن ديروان أن يرتقي بمستوى معيشة الشعب السوري ليقترب من نماذج اقتصادية ناجحة مثل سنغافورة؟ وهل ستتحول هذه الرؤية التي تعبر عنها تدوينات في فيسبوك إلى سياسات عملية يُعتمد عليها في إعادة بناء اقتصاد وطني مستدام؟ أم تبقى مجرد خواطر وشهادات على صفحات التواصل الاجتماعي، بدون أن تتم ترجمتها إلى خطوات إصلاحية واقعية؟

في ظل حرية التعبير وفرص النقاش التي تتسع يوماً بعد يوم، تكمن في هذه الأسئلة جوهر التحدي الاقتصادي لسورية الجديدة، حيث يتطلب المستقبل اقتصاداً أكثر كفاءة وانفتاحاً، يستعيد الزخم التنموي ويحقق تطلعات الشعب السوري في حياة أفضل.

اترك تعليقا