اقتصاد الحرب والميليشيات: كيف تحوّلت موارد الدولة إلى شبكات نفوذ خلال سنوات الثورة السورية؟
- ودق - Wadaq
- نوفمبر 25, 2025
- اقتصاد
- اقتصاد الحرب, سوريا
- 0 Comments
خاص ودق | اقتصاد الحرب
منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة السورية، لم يكن النظام يبحث فقط عن أدوات عسكرية لقمع الاحتجاجات، بل عمل تدريجياً على بناء منظومة موازية تعتمد على شبكات النفوذ، الميليشيات، وتجار الحرب. هذه المنظومة لم تكن مجرد حالة ظرفية، بل تحولت إلى بنية اقتصادية كاملة تمتص موارد الدولة وتحوّلها إلى مصدر ثراء لمراكز القوى.
وهكذا تكوّن ما يمكن تسميته بـ«اقتصاد الحرب»، الذي أعاد تشكيل الدولة من الداخل، وحوّل المال العام إلى ثروة خاصة يجري توزيعها عبر شبكات أمنية وعسكرية واقتصادية متشعبة.
فوضى السلاح وتحوّل الولاءات إلى عملة اقتصادية
مع توسّع العمليات العسكرية للنظام، برزت الحاجة إلى تشكيل مجموعات مسلّحة موالية. هذه الميليشيات لم تُنشأ فقط لحفظ السيطرة، بل أصبحت لاحقاً جزءاً من اللعبة الاقتصادية. فقد مُنحت امتيازات تجارية، وتسهيلات على الحواجز، وحق التحكم بمناطق كاملة.
وبدلاً من أن يكون الجيش هو الفاعل الوحيد، أصبحت عشرات المجموعات—بأسماء مختلفة—تتقاسم النفوذ وتفرض الضرائب غير الرسمية على الطرقات، وتحصل على نسبة من التجارة الداخلية، أو من عمليات النقل بين المحافظات.
هذا التحول جعل الولاء السياسي والأمني عملة اقتصادية، إذ يحصل قادة المجموعات على حصة من عقود حكومية، أو امتيازات لاستيراد بضائع، أو حصص من الوقود والقمح، مقابل استمرار دعمهم للنظام.
نهب موارد الدولة: من النفط إلى القمح
مع فقدان النظام السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد، بقيت بعض الموارد الأساسية تحت سيطرته، لكنه لم يعد يستفيد منها وفق القوانين العامة للدولة.
فشبكات النفوذ داخل الأجهزة العسكرية والأمنية تولت إدارة عمليات استخراج النفط في المناطق التي بقيت تحت سيطرة النظام، سواء في ريف حمص أو في حقول صغيرة محاذية للمناطق المتنازع عليها.
كما ظهرت شبكات متورطة في التهريب بين مناطق النظام وباقي مناطق السيطرة، حيث كان القمح يُباع عبر وسطاء بأسعار أعلى بكثير من السعر الرسمي، ويُصدَّر أحياناً إلى السوق السوداء، بينما يجري تسجيل الكميات على أنها خسائر أو «تضرر بسبب الحرب».
الأخطر أن مؤسسات عامة تحولت إلى واجهات تغطي على تحويل الموارد إلى جيوب أفراد نافذين، عبر عقود استثمار وهمية، أو مناقصات مصممة مسبقاً لجهات محددة.
اقتصاد الحواجز: الدولة داخل الدولة
من أكثر مظاهر اقتصاد الحرب وضوحاً في مناطق النظام كان «اقتصاد الحواجز».
فالحواجز العسكرية والأمنية أصبحت نقاط جباية تُفرض فيها رسوم مرور على المدنيين والشاحنات، ومبالغ تحت طائلة التفتيش، أو مصادرة البضائع، أو «التدقيق الأمني الطويل».
لم تكن هذه الأموال تدخل خزينة الدولة، بل تذهب مباشرة إلى جيوب القائمين على تلك الحواجز وإلى شبكات مرتبطة بضباط كبار.
تحولت هذه الحواجز إلى مؤسسات مالية تُدرّ ملايين الليرات يومياً.
وكانت الشاحنات التجارية تدفع مبالغ ثابتة على كل حاجز، ما جعل تكلفة النقل ترتفع أضعافاً، لتنعكس مباشرة على أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية.
وهكذا، أصبح المواطن في نهاية المطاف يدفع ثمن اقتصاد الميليشيات عبر ارتفاع الأسعار.
الحماية مقابل المال: صعود أمراء الحرب
مع ضعف الدولة الرسمي وتراجع قدرة المؤسسات على ضبط الأمن، ظهرت شبكات تقدم «الحماية مقابل المال».
فأصحاب المحلات والمصانع والمزارعون باتوا يدفعون مبالغ شهرية لعناصر مسلّحة توفر لهم حماية من عصابات أخرى… أو من نفس الجماعات إذا لم يدفعوا.
هذا النموذج أدى إلى نشوء طبقة جديدة من «أمراء الحرب»، وهو مصطلح أصبح جزءاً من الحياة اليومية في مناطق النظام.
هؤلاء لا يعتمدون فقط على السلاح، بل على النفوذ داخل الأجهزة الرسمية، ما منحهم حرية التحرك، والتهرب من المحاسبة، والاستفادة من العقود الحكومية التي صممت خصيصاً لهم.
ومع كل ذلك، بقيت الدولة تدّعي أنها تسيطر على الوضع، بينما كانت في الحقيقة تعتمد على هذه الشبكات لتأمين بقائها.
العدالة الانتقالية الاقتصادية: تفكيك شبكات النفوذ بعد سقوط النظام
عند الحديث عن مستقبل سورية بعد سقوط النظام، لا يمكن تجاهل أن الطبقة التي راكمت ثرواتها خلال الحرب ستسعى للحفاظ عليها. هذه الطبقة ليست مجرد تجار، بل تشمل ضباطاً، قادة مجموعات مسلّحة، رجال أعمال مرتبطين بالأجهزة الأمنية، ومسؤولين في مؤسسات الدولة.
لذلك، فإن العدالة الانتقالية الاقتصادية لن تكون خياراً سياسياً فحسب، بل ضرورة لإعادة بناء الاقتصاد على أسس سليمة.
وتبدأ هذه العدالة بخطوات أساسية:
تفكيك شبكات الاقتصاد العسكري والأمني.
استرجاع الأموال المنهوبة عبر الحواجز والتهريب والجبايات.
فتح ملفات الفساد في المؤسسات التي تحولت إلى أدوات لنهب موارد الدولة.
ملاحقة المتورطين في إدارة اقتصاد الحرب، سواء ممن ما تزال أسماؤهم داخل سورية، أو أولئك الذين تم القبض عليهم خارجها بتهم متعلقة بجرائم حرب وانتهاكات مالية وإنسانية.
لقد ألقي القبض خلال السنوات الماضية على عدد من الضباط والعسكريين المنشقين أو السابقين في أوروبا بتهم مختلفة، بعضها يتعلق بجرائم ضد المدنيين. ورغم أن معظم هذه القضايا كانت مرتبطة بانتهاكات إنسانية، فإنها فتحت الباب أمام إمكانية توسيع ملفات المحاسبة لتشمل جرائم اقتصادية مرتبطة بالحرب.
في النهاية، لم تكن سورية خلال سنوات الثورة مجرد ساحة معركة، بل كانت ساحة لإعادة تشكيل الدولة بأكملها.
اقتصاد الحرب والميليشيات لم يكن نتاج الفوضى فقط، بل كان نظاماً قائماً بذاته، يعتمد على تحويل المال العام إلى ملكية خاصة، وعلى استخدام الأمن والسلاح كأدوات اقتصادية.
ومع سقوط النظام، ستكون عملية تفكيك هذا الاقتصاد الأسود هي المعركة الأولى نحو بناء دولة عادلة… ودولة يعيش فيها المواطن بلا حواجز، ولا جبايات، ولا أمراء حرب.

