خان القيصرية في حمص… ذاكرةٌ حجرية وروحٌ اقتصادية ما زالت تنبض

ودق| اقتصاد| الأسواق الشعبية السورية

خان القيصرية في حمص… ذاكرةٌ حجرية وروحٌ اقتصادية ما زالت تنبض

في قلب حمص القديمة، حيث تتقاطع الحكايات التجارية مع طبقات التاريخ، يقف خان القيصرية كأحد أبرز الشواهد الحيّة على العمارة الشرقية في أوج ازدهارها، وكمعلم اقتصادي واجتماعي حافظ على حضوره على الرغم من المتغيرات التي عصفت بالمدينة عبر قرون. يُصنف الخان اليوم كأحد أهم الخانات التاريخية في المحافظة، ليس فقط لأنه من بين أكثر من سبعة وعشرين خاناً ما يزال محافظاً على هيئته الأصلية، بل لأنه ظل على الدوام مرآة لروح حمص التجارية وعمقها الثقافي.

من يتأمل الخان من الخارج يكتشف للوهلة الأولى أن المكان لم يُبنَ ليكون مجرد ممر أو مستودع، بل بُني ليكون بوابة ثقة بين التجار والمسافرين والزوار. يبرز الباب الكبير المصنوع من الخشب المدعم بالحديد كأحد أبرز معالم المدخل، وهو الباب ذاته الذي ظل قائماً منذ الفترة المملوكية—دون أن يتغير شكله إلا بعمليات ترميم ضرورية حافظت على روح المكان. في قلب هذا الباب فتحة صغيرة تُعرف بـ“الخوخة”، كانت تُستخدم قديماً لدخول الحارس ليلاً وخروجه، بما يضمن حماية البضائع وإحكام إغلاق الخان دون تعطيل الحياة التجارية داخله.

ينتقل الزائر عبر هذا المدخل إلى عالم مختلف تماماً. الطابق الأرضي، الذي يعود للفترة المملوكية، يبدو كأنه منحوت من الزمن نفسه. جدرانه الحجرية البازلتية الداكنة تعطي المكان مهابة خاصة، بينما تتقاطع العقود الحجرية فوق الرؤوس على شكل قباب نصفية تحمي المكان من الصيف اللاهب والشتاء القارس، وتُضفي على الخان طابعاً معمارياً بالغ الدقة والاتزان. لم يكن هذا الطابق مجرد بناء؛ كان يمثل قلب النشاط التجاري لزوار حمص، حيث تُعرض البضائع القادمة من كل أصقاع المنطقة من أقمشة وتوابل ومواد غذائية وقطع حرفية.

أما الطابق الأول من الخان، الذي يعود للعهد العثماني، فيحمل روحاً مختلفة قليلاً. فهو مخصص لغرف مبيت الزوار والتجار والمسافرين الذين كانوا يقطعون عشرات، وربما مئات الأميال للوصول إلى حمص، محملين بالسلع والقصص. يبرز في هذا الطابق الأسلوب المعماري المعروف بحجارة “الأبلقية”، وهي مزيج من الحجارة السوداء والبيضاء التي تمنح المكان إيقاعاً بصرياً جميلاً وتنسجم مع الهوية البصرية للمدينة في ذلك الزمن. كانت هذه الغرف بمثابة الفنادق القديمة: توفر الراحة والأمان، وتمكّن التجار من تنظيم تجارتهم وتخزين بضائعهم دون خوف.

في منتصف الخان، تمتد فسحة سماوية واسعة، تُعدّ القلب المفتوح للمكان. هذه الفسحة ليست فقط مصدر إضاءة وتهوية، بل كانت عبر التاريخ مسرحاً للتفاعل الاجتماعي، وملتقى للتجار، ومكاناً لحسم الصفقات اليومية. وفي وسطها بركة مياه كبيرة، يعزز حضورها إحساس الزائر بأن المكان لم يكن مجرد محطة تجارية، بل جزءاً من نظام حياة متكامل يعتمد على الخدمات الضرورية والمرافق الأساسية للمسافرين.

ولا يكتمل المشهد دون الإشارة إلى البئر الواقع في الجهة الشمالية، والذي كان يؤمّن الماء للنزلاء والدواب وللبركة نفسها، في زمن كانت فيه المياه عماداً رئيسياً لأي نشاط تجاري أو خدماتي. كذلك ينتصب الدرج الحجري الذي يقود إلى الطابق العلوي شاهداً على تتابع الأجيال التي مرّت من هنا، وقد حملوا معهم بضائعهم وآمالهم وآلام الطريق.

اليوم، تبدو أهمية خان القيصرية الاقتصادية أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، في ظل توجهات المدن السورية نحو إحياء تراثها العمراني والتجاري كأحد روافد التنمية المحلية. فالتراث ليس مجرد ذاكرة تُزار، بل فرصة اقتصادية حقيقية لإطلاق مشاريع سياحية وثقافية تعيد الحياة إلى المراكز القديمة، وتنشط اقتصاد المدينة عبر الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة، وتعيد ربط حمص بتاريخها العريق بوصفها مركزاً تجارياً بين الداخل والساحل. إعادة تأهيل الخان وإزالة التجاوزات عن أروقته هي خطوة في هذا الاتجاه، إذ تفتح الباب أمام إعادة استخدامه كخان تجاري حرفي، أو كمركز سياحي تراثي، أو حتى كفضاء ثقافي يعرض الفنون التقليدية.

إن تاريخ خان القيصرية ليس تاريخ بناء فقط؛ إنه تاريخ حركة اقتصادية استمرت قروناً. فحمص لم تكن يوماً مدينة عابرة في مسار التجارة، بل كانت محطة رئيسية يتقاطع فيها التجار القادمون من الشرق والغرب، وتُخزّن فيها البضائع، وتُبرم فيها الصفقات، وتُدار منها شبكات التجارة المحلية والإقليمية. والخان، كغيره من الخانات، كان جزءاً من هذه المنظومة: مركزاً للتجار، ومكاناً للراحة، ونقطة تبادل للثقافات واللغات والخبرات.

ولعل ما يميز خان القيصرية عن غيره أنه ما زال حتى اليوم محتفظاً بروحه الأولى. لم تتحول ملامحه إلى أطلال، ولم تفقد تفاصيله هويتها. بل بقي قائماً بكل ما فيه من معمار وتراث، ينتظر دوراً جديداً يتناسب مع تغير الزمن دون أن يلغي أصالته.

خان القيصرية ليس مجرد بناء قديم في مدينة حمص؛ إنه قصة طويلة من التجارة، والضيافة، والتنوع الثقافي، والمهارة المعمارية. هو ذاكرة حجرية لأجيال مضت، وفرصة اقتصادية لأجيال قادمة. وما دام هذا الخان قائماً، ستبقى حمص تروي عبره جزءاً من تاريخها وحضورها وروحها التي لا تنطفئ.

اترك تعليقا